أحكام القتل غير العمدي
تمهيد وتقسيم :
نص المشرع الاتحادي في المادة 38/2 عقوبات اتحادي على أنـه: "ويتوفر الخطأ إذا وقعت النتيجة الإجرامية بسبب خطأ الفاعل سواء أكان هذا الخطأ إهمالاً أم عدم انتباه أم عدم احتياط أو طيشاً أو رعونة أم عدم مراعاة القوانين أو اللوائح أو الأوامر".
ونص على جريمة القتل غير العمدي في المادة 342 عقوبات اتحادي: " يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين من تسبب بخطئه في موت شخص.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة والغرامة إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو كان تحت تأثير سكر أو تخدير عند وقوع الحادث أو امتنع حينئذ عن مساعدة المجني عليه أو عن طلب المساعدة له مع استطاعته ذلك.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات والغرامة إذا نشأ عن الفعل وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص. فإذا توفر ظرف آخر من الظروف الواردة في الفقرة السابقة تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على سبع سنوات والغرامة " ( ). ويشترك القتل غير العمدي مع القتل العمدي في ركنين هما محل الاعتداء والركن المادي ، ويختلف عنه في الركن الثالث وهو الركن المعنوي . فالقتل غير العمدي يشترك مع القتل العمدي في محل الاعتداء ، وهو حق الإنسان في الحياة ـ الذي يتطلب أن يكون المجني عليه إنساناً على قيد الحياة وقت ارتكاب الفعل الإجرامي .
كما يشترك القتل غير العمدي مع القتل العمدي في الركن المادي الذي يتحقق بارتكاب فعل الاعتداء على الحياة الذي يترتب عليه إزهاق روح المجني عليه. أي أن عناصر الركن المادي للقتل غير العمدي هي: فعل الاعتداء على الحياة ، والنتيجة المتمثلة في إزهاق روح المجني عليه، وعلاقة السببية بين الفعل الإجرامي والنتيجة . وقد بينت المادة 342 عقوبات اتحادي الركن المادي في القتل غير العمدي بقولها : " ....من تسبب بخطئه في موت شخص .... " وللنتيجة وعلاقة السببية أهمية خاصة في القتل غير العمدي ، فوفاة المجني عليه بسبب خطأ الجاني يقيم مسئوليته عن القتل غير العمدي ، ومؤدى ذلك أن تخلف النتيجة أو علاقة السببية يحول دون مساءلة الجاني عن قتل غير عمدي ، سواء في صورته التامة لتخلف أحد عناصر الركن المادي ، أو في صورة الشروع حيث لاشروع في الجرائم غير العمدية ، مع الإشارة إلى أن تخلف الوفاة قد يترتب عليه مسئولية المتهم عن الإصابة غير العمدية ، وذات الحكم ينطبق لو انقطعت علاقة السببية بين خطأ المتهم والوفاة ، كما لو ارتبطت هذه النتيجة بسبب آخر كخطأ الطبيب الجسيم في العلاج .
وأما وجه الاختلاف بين القتل غير العمدي والقتل العمدي ، فيتمثل في الركن المعنوي الذي يتخذ صورة القصد الجنائي في القتل العمدي ، وصورة الخطأ في القتل غير العمدي . لذلك سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين ، نخصص الأول لدراسة الركن المعنوي في القتل غير العمدي ، ونتناول في الثاني دراسة العقوبات التي حددهـا القانون للقتل غير العمدي في صورته البسيطة ثم المشددة .
المبحث الأول
الخطــــــأ
سوف نقسم هذا المبحث إلى عدد من المطالب بحسب ماتقتضيه دراسة الخطأ وبيان أحكامه وذلك على النحو التالي .
المطلب الأول
ماهيـة الخطـأ
لم يتصد قانون العقوبات الاتحادي لتعريف الخطأ وبيان ماهيته ، وإن ذكر صورا له في نص المادة 38 فقرة ثانية حيث أورد الإهمال وعدم الانتباه وعدم الاحتياط والطيش والرعونة وعدم مراعاة القوانين أو اللوائح أو الأنظمة أو الأوامر .
وقد عرف الفقه الخطأ بأنه كل فعل أو امتناع إرادي ، تترتب عليه نتائج لم يقصدها الفاعل ، ولكن كان بإمكانه ومن الواجب عليه أن يتجنبها . وعليه يمكن تعريف الخطأ في جريمة القتل بأنه نشاط إرادي يتضمن إخلالا بواجبات الحيطة والحذر يؤدي إلى وفاة المجني عليه ، في الوقت الذي كان في استطاعة الجاني ومن واجبه أن يحول دون تحققها.
ويمثل الإخلال بواجبات الحيطة والحذر الجانب المادي للخطأ ، غير أنه لايكفي لمساءلة من أخل بواجبات الحيطة والحذر عن النتيجة الإجرامية التي تحققت كأثر لإغفال تلك الواجبات عند ارتكاب نشاطه . فالقانون يتطلب وجود علاقة بين إرادة صاحب السلوك والنتيجة المتحققة أي وفاة المجني عليه، ويمثل هذا الجانب العنصر النفسي في الخطأ ويقوم على مدى توقع المتهم لحدوث نتيجة إجرامية كأثر لمخالفته واجبات الحيطة والحذر في سلوكه. فإذا لم يتوقع حدوث الوفاة نتيجة لنشاطه ،مع أنه كان في استطاعته ومن واجبه أن يتوقعها ويحول دون تحققها كان الخطأ غير واعي أي بدون تبصر، كما لو تركت أم كوبا به مادة سامة على طاولة بالقرب من يد طفلها دون أن يرد بخلدها أن بإمكان طفلها أن يشرب من الكوب ويموت ، ويحدث أن يشرب الطفل فعلا المادة السامة ويموت . فجوهر الخطأ غير الواعي (البسيط) هو انتفاء علم الجاني بالنتائج الضارة لنشاطه الإرادي لخمول في إدراكه منعه من توقع آثار هذا النشاط والعمل على تفاديها خمولاً ما كان ليحدث لو بذل ما بإمكانه من حيطة ( ) .
أما إذا كان المتهم يتوقع حدوث الوفاة نتيجة لسلوكه دون أن تتجه إليها إرادته ، بل كان يأمل في عدم تحققها ، ويعتقد بأنها لن تتحقق اعتمادا على مهارته ، فإن الخطأ يكون في هذه الحالة خطأ واعياً أي بتبصر ، كمن يقود سيارته بسرعة زائدة في شارع مزدحم بالمارة ، فيقتل أحدهم ، فهذا السائق توافر لديه العلم عند إتيان السلوك الخطر بإمكان تحقق وفاة إنسان كنتيجة لنشاطه ، ومضى في ارتكابه مقتنعاً بعدم تحققها اعتماداً على مهارته في قيادة السيارة . فيسأل الجاني على أساس إغفاله ما كان ينبغي عليه من إجراءات لمنع تحقق النتيجة الإجرامية ، وهذا الإغفال ما كان ليقع لو بذل ما في وسعه من حيطة وحذر .
المطلب الثاني
صـــور الخطــأ
أورد المشرع الاتحادي صور الخطأ في المادة 38/2 عقوبات على سبيل المثال، وهي تتسع لتشمل مختلف أنواع النشاط الذي يؤدي إلى نتائج مجرمة غير مقصودة من الفاعل . ويكفي لقيام المسئولية عن الخطأ غير العمد أن تتحقق أي صورة من الصور التي أوردها المشرع ، فكل صورة تعد خطأ قائماً بذاته يرتب المسئولية . ويمكن تقسيم صور الخطأ إلى طائفتين : الأولى تضم صور الخطأ العام ، والطائفة الثانية تضم الخطأ الخاص .
أولاً : صورة الخطأ العام :
تضم هذه الطائفة الإهمال، الرعونة، وعدم الاحتياط وتنطوي على مخالفة للواجبات التي تستمد من الخبرة الإنسانية .
1- الرعونة : تعني الرعونة لغة الخفة والطيش، ويراد بها سوء التقدير أو نقص المهارة أو الجهل بالقواعد الأساسية والأصول الفنية التي يتعين العلم بها. ويعني سوء التقدير إقدام الشخص على عمل دون إدراك لخطورتـه ولما قـد ينجم عنـه من نتائج ضارة، فإذا كان تصرف الشخص
العادي في موقف معين يتسم بالروية والحيطة لتقدير نتائج تصرفه، نجد الجاني يندفع لإتيان السلوك دون إعمال ذلك التقدير. ومن ذلك أن يغير قائد السيارة اتجاهه فجأة دون أن ينبه المارة فيصدم شخصاً ( ). وأما نقص المهارة فيعني إقدام الشخص على عمل تنقصه الكفاءة الفنية اللازمة لمباشرته، فهو بهذا السلوك يخالف واجباً من الواجبات التي تفرضها الخبرة الإنسانية العامة، والتي تقتضي ألا يباشر الإنسان أمراً يجهله، كمن يقوم بقيادة سيارة وهو يجهل أصول القيادة فيصيب إنساناً.
ويعني الجهل بالأمور الفنية التي يتعين العلم بها، قيام صاحب المهنة أو الحرفة أو الفن بعمل يدخل في اختصاصه الفني دون مراعاة الأصول العلمية الثابتة التي يفترض علمه بها ( )، كالمهندس الذي يخطئ في تصميم الرسم الهندسي لمبنى فينهار بعد تشييده، والصيدلي الذي يخطئ في تحضير المادة المخدرة التي تستخدم في إجراء عملية جراحية مما أدى إلى تسمم المريض ووفاته.
2- الإهمال : يراد به عدم اتخاذ الجاني الاحتياطات التي يقتضيها واجب الحيطة والحذر، وتمليها الخبرة الإنسانية العامة على من كان في مثل ظروفه، لأن من شأنها أن تحول دون حدوث النتيجة الإجرامية . فالخطأ في الإهمال يحدث بطريق سلبي يتمثل في ترك واجب، أو الامتناع عن تنفيذ أمر معين. وفي ذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا بأن " .... المقصود بالإهمال كصورة من صور الخطأ التي تقوم بها المسئولية ...... هو حصول الخطأ بطريق سلبي نتيجة ترك واجب أو الامتناع عن تنفيذ أمر ما، فتشمل هذه الصورة الحالات التي يقف فيها المتهم موقف سلبياً، فلا يتخذ الاحتياطات التي يدعو إليهـا الحذر وكان من شأنها أن تحول دون حدوث النتيجة...."( ).
ومن أمثلة هذه الصورة عدم اتخاذ حارس الحيوان الاحتياطات الكافية لمنع أذاه عن الناس، وترك المتهم طفلاً بمفرده بجوار موقد غاز مشتعل عليه ماء، فيسقط عليه الماء المغلي فيموت، وعدم إجراء مالك المبنى أعمال الصيانة اللازمة لـه، فينهار على الساكنين فيه .
3- عدم الاحتياط : يعني عدم الاحتياط صورة الخطأ الواعي أي الخطأ بتبصر، ويتمثل في إقدام الشخص على فعل كان يجب عليه الامتناع عنه لكونه يدرك خطورته، ويتوقع أن يترتب عليه ضرر، ومع ذلك يمضي قدما في فعله دون اتخاذ الاحتياطات التي من شأنها الحيلولة دون تحقق الضرر.
ومن أمثلة عدم الاحتياط ، قيام الأم بتنويم طفلها الرضيع بجوارها فتنقلب عليه أثناء نومها فتقتله، وسائق السيارة الذي يسرع بها في طريق غاص بالمارة فيصيب أحدهم، وصاحب السفينة التي يحملها عدداً من الركاب يزيد على حمولتها فتغرق بهم .
وقد أدانت المحكمة الاتحادية العليا طبيباً بسب قيامه بعد إجراء عملية الختان للمجني عليه، بفك الغيار في كل يوم ومشاهدة الجرح في غرفة غير معقمة، وذلك لعدة أيام، مما سبب تلوثاً في الجرح أسفر عن تشوه في ذكر المجني عليـه، فاعتبرت المحكمة ذلك خطأ صورته عدم التحرز في آداء العمل( ).
ثانياً : الخطأ الخاص :
يتمثل الخطأ الخاص في حالة مخالفة الشخص لما تفرضه القوانين واللوائح والأنظمة ويشكل صورة مستقلة من صور الخطأ ، يترتب عليها مسئولية الجاني عن القتل الخطأ حتى ولو لم يتوافر في حقه أي صورة من صور الخطأ الأخرى . ويستوي أن تتمثل المخالفة في الامتناع عما كان يجب القيام به ، أو في إتيان سلوك محظور كان يتعين اجتنابه .
ويستوي أن ترد قواعد السلوك الآمرة أو الناهية في نصوص صادرة عن السلطة التشريعية كالقوانين أو عن السلطة التنفيذية كاللوائح والقرارات والتعليمات الإدارية على اختلاف أنواعها ، أو عن أفراد عاديين كالأنظمة التي يضعها رب العمل لتنظيم العمل في منشآته .
وفي هذا الخصوص قضي بأنه " ...... وهذه الأسباب سائغة تكشف عن إحاطة الحكم بالدعوى عن بصر وبصيرة ، واستوفى عناصرها ومحص أدلتها واستخلص من واقعها ما انتهى إليه في قضائه بإدانة الطاعن ، وأنه هو المسئول وحده عن الحادث لتجاوزه الإشارة الضوئية وهي حمراء والانعطاف للناحية اليسرى مخالفاً تعليمات وقوانين السير والمرور مما أدّى إلى اصطدام السيـارة الأخـرى بها ووقـوع الحادث وهو ما يوفر في حقه ركن الخطأ ... " ( ) .
ويراعى في الخطأ الخاص أن مجرد مخالفة القوانين واللوائح والأنظمة لاتكفي بذاتها لمساءلة المتهم عن الوفاة التي أفضى إليها سلوكه ، وإنما يتعين أن تتوافر علاقة السببية بين مخالفة النصوص المذكورة ووفاة المجني عليه( ). غير أن انتفاء الخطأ الخاص، أي إثبات أن المتهم لم يخالف النصوص السابقة، لا يعني نفي الخطأ عن المتهم وانتفاء مسئوليته بالتالي عن النتيجة المتحققة، فقد تتوافر في النشاط الذي أتاه إحدى صور الخطأ العام كالإهمال أو عدم الاحتياط، ويكفي للإدانة توافر صورة واحدة للخطأ، فتقوم المسئولية عن قتل غير عمدي .
ولا يقع على سلطة الاتهام عبء إثبات الخطأ الخاص، لأن المشرع وضع قرينة على توافر الخطأ بمجرد ثبوت مخالفة القوانين أو اللوائح أو الأنظمة.
ومن أمثلة الخطأ الخاص قيادة السيارة في اتجاه ممنوع ، قيادة السيارة بسرعة تجاوز الحد الأقصى الذي تسمح به قوانين المرور .
المطلب الثالث
معيــار الخطــأ
تباينت آراء الفقه بشأن تحديد المعيار الذي يجب الاعتداد به في تقدير العناية الواجب على الجاني اتخاذها لتفادي وقوع النتيجة الضارة .
فقد اتجه البعض إلى الأخذ بمعيار شخصي، ومقتضاه وجوب النظر إلى الجاني وظروفه الخاصة، كخبراته الشخصية، ودرجة ذكائه ومستوى تعليمه، فتتم المقارنة بين ما صدر منه من تصرف مشوب بشبهة الخطأ، وبين ما كان يمكن أن يصدر منه في نفس الظروف من تصرف آخر كان يعد عادياً ومقبولاً، فإذا تبين أنه كان بمقدوره تجنب السلوك الخاطئ، وتفادي ما أحدثه بالغير من قتل غير متعمد عدّ مخطئاً، وإلا انتفى الخطأ في حقه.
غير أن البعض الآخر يرى أن يكون المعيار في هذا الشأن موضوعياً، ومقتضاه المقارنة في تقدير توافر الخطأ بين ما صدر من الجاني، وما كان يصح أن يصدر من شخص عادي متوسط الحذر والاحتياط، فإذا تبين أن الجاني التزم في سلوكه القدر من الحيطة والانتباه الذي يلتزمه هذا الإنسان العادي، فلا يتوافر الخطأ في حقه، أما إذا تبين أنه نزل في سلوكه عن هذا القدر، فلم يتوقع النتيجة الإجرامية ولم يعمل على تفاديها، في الوقت الذي كان بإمكانه توقعها، أو توقع النتيجة الضارة غير أن الاحتياطات التي اتخذها كانت أقل مما يتخذه الشخص العادي، عندئذ يعد مخطئاً.
والسائد أن معيار الخطأ قوامه الشخص المعتاد من نفس الفئة التي ينتمي إليها الجاني، مضافاً إليه الظروف الخارجية التي أحاطت بالجاني خاصة ما تعلق منها بمكان النشاط وزمانه. فإذا ثبت أن الجاني التزم في تصرفه قدراً من الحيطة يناسب ما كان يلتزمه الشخص المعتاد إذا وجد في ذات ظروفه، فلا ينسب إليه الخطأ، أما إذا بذل قدراً من الحيطة والحذر أقل من ذلك، فإنه يكون مخطئاً.
ولقد تبنى القضاء الإماراتي المعيار الموضوعي في تقدير توافر الخطأ، ومن ذلك أن قضت المحكمة الاتحادية العليا في أحد أحكامها بأنه ".... وما كان له أن يتعامل مع الجرح بكثرة فتحه بناء على طلب الشاكي والانصياع إليه ودون أن يكون ذلك في غرفة معقمة ، وكان عليه أن يمتنع ويعمل وفق توجهاته هو، وإلا فيكون قد قصر طبيا . وأخفق في مراعاة مستوى السلوك الذي كـان الطبيب العادي قـادراً على مراعاته ، فيقع تحـت طائلة المسئولية ... "( ) .
كما قضت في حكم آخر بأنه : " متى كان الحكم المطعون فيه قد عول في تكوين عقيدته ببراءة المطعون ضده على عدم إهماله أو تحرزه بسبب عدم توقع الإنسان العادي لأن ينام أحد العاملين في موقع العمل وأثناء ساعات العمل تحت سيارة تقف في العراء ومازال سائقها يجلس خلف عجلة قيادتها بما يستدل منه أنه سيتحرك بها في أية لحظة وبذلك يكون تصرف المجني عليه وقد استلقى تحت السيارة من التصرفات الشاذة غير المتوقعة في ظروف الحادث، هذا ولما كان البين من الحكم أنه أحاط بالدعوى عن بصر وبصيرة وأقام قضاءه على أسباب سائغة فإنه بذلك قد انحسر عن الخطأ في تطبيق القانون "( ) .
المطلب الرابع
الخطـأ المشـترك
إذا كانت الوفاة في جريمة القتل الخطأ قد نجمت عن خطأ الجاني وحده، فلا صعوبة في تحديد المسئولية عندئذ ، حيث يعد مرتكب هذا الخطأ فأعلاً لجريمة القتل الخطأ . على أنه قد يساهم في تحقيق هذه النتيجة إلى جانب خطأ الجاني خطأ المجني عليه أو خطأ الغير ، فما أثر تلك العوامل على مسئولية المتهم عن الوفاة ؟
الفرع الأول : خطأ شخص آخر :
إذا تعددت الأخطاء فنتجت عنها وفاة المجني عليه ، يسأل كل من ساهم بخطئه في تحقيق الوفاة، دون أن يؤثر ذلك في مسئولية غيره . فتعدد الأخطاء المتسببة في حدوث النتيجة الإجرامية يستوجب مساءلة كل من أسهم فيها أيا كان قدر الخطأ المنسوب إليه، مع التمييز بين من يساهم بخطئه في القتل الخطأ بصفة أصلية فيسأل باعتباره فاعلا في الجريمة، ومن يساهم فيها بصفة ثانوية فيسأل باعتباره شريكا فيها( ). ومن صور ذلك أن يتفق شخص مع خادمه على جمع النفايات الموجودة في مزرعته وإحراقها، فيقوم الخادم بتجميعها في مكان محدد، ويقوم المخدوم بصب المادة القابلة للاشتعال وإضرام النار، فإذا بشخص كان نائما في الجوار تمتد إليه ألسنة اللهب فيموت. فإذا أمكن أن ينسب للخادم والمخدوم الإخلال بواجب الحيطة والحذر، لعـدم تحققهما من خلو المكان ، يسأل كل منهما باعتباره فاعلاً في القتل الخطأ .
أما لو حرض شخص السائق على قيادة السيارة بأكثر من السرعة المسموح بها، فصدم شخصاً وقتله ، يسأل السائق عن القتل الخطأ بصفته فاعلا فيه ، ويسأل من حرضه باعتباره شريكا بالتسبب .
وفي هذا الخصوص قضت محكمة النقض المصرية بأن " تعدد الأخطاء الموجبة لوقوع الحادث يوجب مساءلة كل من أسهم فيها أيا كان قدر الخطأ المنسوب إليه ، يستوي في ذلك أن يكون سبباً مباشراً أو غير مباشر في حصوله ( ).
وقضت المحكمة الاتحادية العليا بأنه : " ...... لما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد حصر مسئولية القتل الخطأ في الطاعن وآخر وحملهما دية المجني عليه مناصفة دون المستأنف الثالث وذلك على سند من أن الثابت من التقارير التي بملف القضية أن سبب انهيار البناية ناتج عن استعمال المقاول الطاعن للشدات المعدنية ولم يراع الدقة في تركيبها أفقيا وتثبيتها. وقد وضعت بعض القوائم الحديدية للشدة على طابوق بعضه صامت وبعضه فارغ، والبعض الآخر على فضلات خشبية. وهذا مخالف للمواصفات الفنية والأصول الصناعية وهي مسئولية النجار الطاعن والشركة المقاول ممثلة في المهندس المشرف على الموقع . وأن المسئولية حددها تقرير بلدية العين في أن المسئول المقاول .... وفي نظر المحكمة هو النجار والشركة المقاول الأصلي. وأن النجار الطاعن أخبر أكثر من مرة بأن الدعامة والشدات غير صالحة واستمر في العمل مع علمه بضعف الدعائم والشدات مما يجعله مسئولاً عن النتيجة. وهذه الأسباب سائغة وتكفي لحمل قضاء الحكم فيما انتهى إليه من تحميل الطاعن وآخر مسئولية الحادث " ( ).
الفرع الثاني : خطأ المجني عليه :
قد يتسبب في حدوث الوفاة خطأ المتهم وخطأ المجني عليه، وعندئذ لا يجب خطأ المجني عليه خطأ المتهم ، فتظل مسئولية المتهم قائمة، طالما كان خطأ المجني عليه مألوفاً ومتوقعاً ، وباستطاعة المتهم ومن واجبه أن يتوقعه . ومن أمثلة ذلك أن يهمل المجني عليه في علاج نفسه إهمالاً يتصور أن يصدر ممن هو في بيئته .
وفي ذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا بأنه :"من المقرر أن اشتراك المجني عليه في الخطأ لايعفي الجاني من المسئولية بل تخفف العقوبة بما في ذلك الدية بقدر نصيب المجني عليه في الخطأ إذ إن المجني عليه يكون قد أعان على نفسه لأن فعله في نفسه يكون هدراً، وعندئذ ينقص من الدية بمقـدار خطـأ المجني عليـه ويقضي بباقيها على من شارك في الفعل بخطئه " ( ) .
فإذا كان خطأ المجني عليه شاذاً وغير متوقع، بحيث لم يكن في استطاعة الشخص العادي توقعه، وبالتالي تفادي الوفاة الناجمة عنه، فإن المتهم لا يسأل عن هذه الوفاة التي لم يكن باستطاعته ولا من واجبه توقعها، حيث لا تكليف بمستحيل. فخطأ المجني عليه استغرق خطأ المتهم، وقطع علاقة السببية بينه وبين الوفاة التي حدثت.
ويختص قاضي الموضوع بتقدير خطأ المجني عليه، في ضوء الوقائع التي أحاطت به ، لتحديد ما إذا كان مألوفاً ومتوقعاً أو شاذاً ومن شأنه قطع علاقة السببية بين الوفاة وخطأ المتهم . ويلتزم القاضي بأن يبين في حكمه نوع الخطأ الذي صدر من المجني عليه ، ومدى مساهمته في إحداث النتيجة الإجرامية ( ) .
وفي هذا الشأن قضت المحكمة الاتحادية العليا بأن " .... واكتفت محكمة البداية ومحكمة الاستئناف في الاعتماد فقط على ماجاء في اعتراف المتهم بوقوع الحادث وأنه هو المخطئ ، من غير أن تناقش السرعة التي كان يسير بها المجني عليه ليتبين من ذلك ما يتحمله المطعون ضده من نسبة في المسئولية وما يتحمله المجني عليه من الخطأ الذي نشأ عنه الحادث .... الأمر الذي يعيب الحكم المطعون فيه ويستوجب نقضه مع الإحالة " ( ) .
المطلب الخامس
إثبات الخطأ الشخصي
تطبيقاً لمبدأ شخصية المسئولية الجنائية لايسأل الشخص إلا على أساس خطأ شخصي يتعين إثباته ، فلا يسأل جنائياً عن فعل غيره مطلقاً، وإن كان مكلفاً بالإشراف عليه، إلا إذا تم إثبات أنه ارتكب خطأ شخصياً مرتبطاً سببياً بالوفاة التي تحققت. وفي ذلك قضي بأن "مناط العقاب في جريمة القتل الخطأ هو ثبوت خطأ شخصي في جانب المتهم والذي يتسبب عنه الضرر، فلا يسأل الشخص عن فعل غيره إذا لم يثبت أنه ارتكب خطأ شخصياً مرتبطاً بالنتيجة ارتباط السبب بالمسبب"( ).
وتكلف سلطة الاتهام بإثبات قيام الخطأ في حق المتهم بإقامة الدليل على إهماله أو عدم احتياطه أو رعونته أو مخالفته للقوانين أو اللوائح أو القرارات أو الأنظمة أو الأوامر. كما يتعين عليها إثبات توافر علاقة السببية بين الخطأ ووفاة المجني عليه. وعليه لايكلف المتهم بإثبات عدم توافر الخطأ في جانبه.
ويجب على المحكمة أن تبين في حكمها وجه الخطأ في سلوك المتهم إذا أدانته بتهمة القتل الخطأ. على أن ذلك لايعني وجوب ذكر لفظ الخطأ ، أو الإشارة إلى إحدى صوره كالإهمال أو الرعونة، بلى يكفي أن يكون ذكر الوقائع وما أحاط بها من ملابسات وكيفية حدوثها شاهداً بثبوت الخطأ في حق المتهم . وفي ذلك قضى بأنه : "من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن تقدير الخطأ المستوجب لمسئولية مرتكبه في جريمة القتل الخطأ مما تستقل بتقديره محكمة الموضوع متى رَكنت في تقديرها لأسباب سائغة " ( ).
فإذا كان الخطأ خاصاً يكفي أن تبين محكمة الموضوع سلوك المتهم الذي قدرت أنه يخالف القوانين أو اللوائح أو الأنظمة أو الأوامر .
وليس لمحكمة النقض أن تراقب الوقائع التي استخلص منها قاضي الموضوع ثبوت الخطأ في حق المتهم ، ولها أن تبسط رقابتها على سلامة الاستدلال من هذه الوقائع على توافر الخطأ أو انتفائه .
المبحث الثاني
عقوبات القتل غير العمدي
حددت المادة 342/1 عقوبات اتحادي عقوبة القتل غير العمدي في صورته البسيطة، ونصت الفقرتان الثانية والثالثة من ذات المادة على ظروف تشدد عقوبة القتل غير العمدي، لذلك تقتضي الدراسة تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في الأول بيان عقوبة القتل غير العمدي البسيط، وفي الثاني نستعرض الظروف التي تشدد عقوبة القتل غير العمدي وآثارها.
المطلب الأول
عقوبة القتل غير العمدي في صورته البسيطة
نصت على هذه العقوبة المادة 342 من قانون العقوبات الاتحادي في فقرتها الأولى، وجعلتها الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين، حيث نصت المادة المذكورة على أنه "يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين من تسبب بخطئه في موت شخص " ( ) .
ويلاحظ أن المشرع الاتحادي لم يضع حدا أقصى أو أدنى لأي من عقوبتي الحبس والغرامة، ومدلول ذلك تطبيق الحدود العامة المقررة لهاتين العقوبتين. وعليه تطبق المادة 69 عقوبات اتحادي والتي قررت أن الحد الأدنى للحبس لايقل عن شهر، ولا يزيد حده الأقصى على ثلاث سنوات مالم ينص القانون على خلاف ذلك.
أما بالنسبة للغرامة، فلما كانت الجريمة جنحة ، فالحد الأدنى للغرامة يزيد عن ألف درهم تطبيقاً لنص المادة 29 عقوبات اتحادي التي تنص على أن " الجنحة هي الجريمة المعاقب عليها بعقوبة أو أكثر من العقوبات الآتية:
2 – الغرامة التي تزيد على ألف درهم" .
وأما الحد الأقصى للغرامة فلا يزيد عن ثلاثين ألف درهم تطبيقاً لنص المادة 71 من قانون العقوبات الاتحادي.
غير أن العقوبة على النحو المتقدم بيانه تبدو غير متناسبة مع جسامة النتيجة التي أفضى إليها خطأ المتهم ، والتي تتمثل في إهدار حياة بشرية . لذلك يبدو من المناسب زيادة مقدار العقاب في هذه الجريمة بتعديل الحدين الأدنى والأقصى للحبس، وزيادة الحد الأدنى للغرامة في الأقل، مع الاتجاه إلى الجمع بينهما على سبيل الوجوب .
المطلب الثاني
الظروف المشددة لعقوبة القتل غير العمدي
نصت على هذه الظروف وبينت أثرها في التشديد الفقرتان الثانية والثالثة من المادة 342 عقوبات اتحادي ، ويستند التشديد في هذه الظروف إما إلى جسامـة الخطأ، أو جسامة الضرر، أو اجتماع جسامة الخطأ والضرر معا.
الفرع الأول : الظروف التي ترجع إلى جسامة الخطأ :
حددت هذه الظروف الفقرة الثانية من المادة 342 عقوبات اتحادي بقولها : "وتكون العقوبة الحبس مدة لاتقل على سنة والغرامة إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو كان تحت تأثير سكر أو تخدير عند وقوع الحادث أو امتنع حينئذ عن مساعدة المجني عليه أو عن طلب المساعدة له مع استطاعته ذلك " .
وقد أورد هذا النص الظروف الثلاثة الآتية : الخطأ المهني ، والسكر أو التخدير، والنكول عن مساعدة المجني عليه ، وسنتولى تفصيلها على النحو التالي :
أولاً : الخطأ المهني ( ) :
يفترض هذا الظرف أن الجاني يمارس وظيفة أو مهنة أو حرفة ، تخضع ممارستها لأنظمة تحدد القواعد التي ينبغي أن يلتزم بها من يمارسونها ، ويستوي أن تكون هذه القواعد قانونية أو لائحية أو عرفية تقرها أصول العلم أو الفن الذي تمارس المهنة أو الحرفة وفقا له . ولا يهم بالنسبة للموظف أن يكون موظفاً في الحكومة أو في قطاع خاص ، مادامت ممارسة الوظيفة تخضع لقواعد قانونية أو لائحية أو اتفاقية يلتزم بها العاملون في آدائهم للأعمال المنوطة بهم .
ومن ثم إذا كان الشخص غير موظف ولا يمارس مهنة أو حرفة تخضع لقواعد تنظمها انتفى الظرف المشدد بالنسبة للقتل الخطأ الذي حققه ، وطبقت عليه حينئذ عقوبة القتل غير العمدي في صورته البسيطة .
غير أن ممارسة الوظيفة أو المهنة أو الحرفة لاتكفي لتوافر ظرف التشديد إذا ارتكب المتهم قتلاً غير عمد ، بل يلزم أن تكون الوفاة قد نجمت عن إخلال المتهم بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته .
فإذا كان ما صدر عن المتهم من خطأ لايمثل إلا إخلالاً بواجبات الحيطة والحذر التي تفرضها الخبرة الإنسانية العامة على كافة الأفراد ، لم يتوافر الظرف المشدد للقتل غير العمد .
ويكفي محض الإخلال بأصول الوظيفة أو المهنة أو الحرفة دون اشتراط درجة جسامة معينة فيه ، فيستوي أن يكون الإخلال بتلك الأصول يسيراً أو جسيماً لتوافر ظرف التشديد . وتقدير توافر هذا الإخلال متروك لقاضي الموضوع في ضوء الظروف والوقائع التي أحاطت بالجريمة .
ومن صور هذا الظرف الطبيب الذي يجري عملية جراحية بأدوات غير معقمة فيترتب على استخدامها وفاة المريض ، وسائق السيارة التي يقودها ليلاً دون استخدام وسائل الإنارة فيها .
ثانياً : السكر والتخدير :
شدد المشرع الاتحادي عقوبة الجاني إذا كان تحت تأثير سكر أو تخدير عند ارتكابه الخطأ الذي نجمت عنه وفاة المجني عليه .
ولقد راعى المشرع ما يترتب على تناول المسكرات والمخدرات من تقليل وعي الشخص وإدراكه ، خاصة إذا كان يمارس عملا يقتضي منه أن يكون كامل السيطرة على إرادته . فغاية التشديد القضاء على أخطر أسباب الحوادث المرورية التي يترتب عليها الكثير من حالات الوفاة . فضلاً على ذلك فإن تناول الشخص للمسكر أو المخدر يزيد من جسامة الخطأ الذي أرتكبه، والذي أدى إلى الحادث الذي نجمت عنه الوفاة، فهو يضيف إلى الخطأ الأصلي خطأ آخر تمثل في تناوله مسكرا أو مخدراً قبل إتيان سلوكه، في الوقت الذي كان يتعين عليه فيه أن يتقيد بمزيد من الحيطة والحذر، لا تناول مواد من شأنها أن تنقص من قدرته على ضبط سلوكه ، واتخاذ الحيطة اللازمة بشأنه حتى لا يفضي إلى نتائج ضارة . ويتطلب توافر هذه الظروف توافر ما يلي :
1- أن يكون المتهم قد تعاطى مسكراً أو مخدراً باختياره ، وأن يكون قد ترتب على تعاطيه هذه المواد التأثير في وعيه وإدراكه . فإذا كان قد تناول المادة المسكرة أو المخدرة قهراً عنه ، أو على غير علم منه بحقيقتها، وترتب على تناولها التأثير في وعيه وإدراكه ، فلا يتوافر الظرف المشدد ، بل تنتفي مسئوليته الجنائية تطبيقاً للقواعد العامة .
ولا يشترط أن يفقد الشخص الوعي كله ، لأن النص لم يتطلب حالة السكر التام ، بل يكفي أن يتم تعاطي قدراً من المادة المسكرة أو المخدرة مما يؤدي إلى إنقاص الوعي والإدراك لدى المتهم ( ) .
2- التعاصر الزمني بين فقدان الوعي والإدراك الناجم عن تعاطي المادة المسكرة أو المخدرة ووقت ارتكاب الخطأ الذي تسبب في وفاة المجني عليه . ويعني ذلك وجوب توافر علاقة سببية بين نقص الإدراك والوعي الناجم عن تناول المادة المسكرة أو المخدرة ، وبين الواقعة التي ارتكبها المتهم وأدت إلى وفاة المجني عليه . ولا أهمية لكمية المادة المسكرة أو المخدرة التي يتناولها المتهم ، فالعبرة بأثرها المتمثل في نقص الوعي والإدراك وقت ارتكاب الفعل المحدث للوفاة ويستفاد ذلك من اشتراط المشرع وقوع الجريمة تحت تأثير سكر أو تخدير.
ثالثاً : النكول عن المساعدة :
يتحقق الظرف المشدد في هذه الصورة إذا كان المتهم قد نكل وقت الحادث عن مساعدة المجني عليه ، أو طلب المساعدة لـه مع قدرته على ذلك . ويقوم هذا الظرف بامتناع المتهم عن تقديم المساعدة للمجني عليه، أو عن طلب المساعدة لـه رغم استطاعته ذلك ، فقد تكون تلك المساعدة فعالة في الحيلولة دون تحقق الوفاة .
وتكمن علة التشديد في هذه الصورة، في أن الجاني يضيف إلى خطئه الذي أدى إلى وقوع الجريمة، خطأ آخر بامتناعه عن تقديم أو طلب المساعدة للمجني عليه. وإذا كان تقديم المساعدة للشخص الذي يتهدده خطر ما، واجباً يفرضه الضمير الإنساني وقواعد الأخلاق، فإن هذا الالتزام يتحول إلى واجب قانوني بالنسبة لمن تسبب بخطئه في وضع الغير في حالة الخطر، فإذا ما أخل بهذا الالتزام، ونكل عن تقديم المساعدة أو طلبها مع قدرته على ذلك، تشدد عقوبته.
ويتطلب توافر هذا الظرف أن يكون الجاني الذي اقترف الخطأ فتسبب في وقوع الجريمة، هو ذاته الذي نكل عن تقديم أو طلب المساعدة للمجني عليه، وعليه لو امتنع غيره عن تقديم المساعدة اللازمة للمجني عليه لما توافر الظرف في حقه، كما لو مرّ شخص بسيارته على منطقة، فوجد على جانب الطريق شخصاً مصاباً، فلم تسعفه ظروفه تقديم المساعدة له، فلا يسأل عن ظرف النكول عن المساعدة. كما يجب أن يكون باستطاعة الجاني تقديم المساعدة أو طلبها من الغير، فإذا ثبت أنه لم يكن بمقدوره إتيان ذلك، كما لو كان تقديم المساعدة يعرض حياة الجاني للخطر، عندئذ ينتفي الظرف المشدد في حقه. ويتعين أيضاً أن يكون من شأن المساعدة إنقاذ حياة المجني عليه، فإذا قدم المتهم قدراً من المساعدة للمجني عليه لم يكن فعّالاً في إنقاذ حياته، في الوقت الذي كان باستطاعته تقديم قدر أكبر يجدي في نفي النتيجة الإجرامية، فإن الظرف المشدد يتوافر بالنسبة له .
ومن البديهي أن المساعدة المتعين تقديمها أو طلبها للمجني عليه تتطلب عدم وفاته فور وقوع الخطأ من الجاني، أي وجوده على قيد الحياة والعمل على إنقاذه من خطر الوفاة. لذلك غالباً ما يتحقق هذا الظرف المشدد في حوادث المرور التي يصاب فيها المجني عليه بإصابات تقتضي نقله إلى المستشفى ، لكن الجاني يلوذ بالفرار بغية التخلص من المسئولية عن الحادث الذي تحقق بخطئه، فإذا توفي المجني عليه، سئل الجاني عن قتل خطأ مشدد لامتناعه عن تقديم أو طلب المساعدة للمجني عليه .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن توافر القتل غير العمدي المتصل بأحد الظروف الثلاثة السابق بيانها وهي: الإخلال بما تفرضه أصول الوظيفة أو المهنة أو الحرفة، أو تعاطي المسكرات أو المخدرات، أو النكول عن المساعدة، يستوجب توقيع عقوبة الحبس لمدة لاتقل عن سنة والغرامة تطبيقاً لنص المادة 342/2 من قانون العقوبات الاتحادي.
الفرع الثاني : الظرف المشدد الذي يرجع إلى جسامة الضرر( ) :
يشدد المشرع الاتحادي عقوبة القتل غير العمدي استناداً إلى جسامة النتيجة التي تحققت، وذلك بمقتضى المادة 342/3 عقوبات اتحادي . وتتحدد جسامة النتيجة الإجرامية بعدد ضحايا الحادث ، فإذا نشأ عن خطأ الجاني وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص، توافر ظرف التشديد .
وترجع علة التشديد في هذه الصورة إلى جسامة الضرر الذي أصاب المجتمع بوفاة أكثر من ثلاثة أشخاص بخطأ واحد، فجسامة الضرر تكشف عن جسامة الخطأ الذي ارتكبه الجاني، مما يستوجب تشديد عقوبته .
ويترتب على توافر هذا الظرف توقيع عقوبة الحبس على الجاني على ألا تقل مدته عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات والغرامة . ويلاحظ أن العقوبتين وردتا على سبيل الوجوب ، فلا يملك القاضي إلا أن يحكم بهما معا.
الفرع الثالث : الظرف المشدد الذي يرجع إلى جسامة الخطأ وجسامة الضرر معاً ( ) :
أورد المشرع الاتحادي هذا الظرف في عجز الفقرة الثالثة من المادة 342 عقوبات اتحادي ، وفحواه أنه إذا اجتمع ظروف من الظروف التي تشدد العقاب لجسامة الخطأ مع ظرف التشديد المتعلق بجسامة الضرر ، كما لو ارتكاب الجاني خطأ مهنيا ، أو كان متعاطياً مادة مسكرة عند ارتكاب الخطأ ، فترتب على الحادث وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص ، كانت العقوبة الحبس مدة لاتقل عن ثلاث سنوات ولاتزيد على سبع سنوات والغرامة .
ويكمن سبب التشديد هنا في أن الخطأ على درجة كبيرة من الجسامة، وقد كشفت تلك الجسامة فداحة الأضرار الناجمة عنه ، مما اقتضى معه تشديد العقوبة بالجمـع بـين الحبـس والغرامـة من جهة ، ورفع الحدين الأدنى والأقصى لعقوبة الحبس .
تمهيد وتقسيم :
نص المشرع الاتحادي في المادة 38/2 عقوبات اتحادي على أنـه: "ويتوفر الخطأ إذا وقعت النتيجة الإجرامية بسبب خطأ الفاعل سواء أكان هذا الخطأ إهمالاً أم عدم انتباه أم عدم احتياط أو طيشاً أو رعونة أم عدم مراعاة القوانين أو اللوائح أو الأوامر".
ونص على جريمة القتل غير العمدي في المادة 342 عقوبات اتحادي: " يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين من تسبب بخطئه في موت شخص.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة والغرامة إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو كان تحت تأثير سكر أو تخدير عند وقوع الحادث أو امتنع حينئذ عن مساعدة المجني عليه أو عن طلب المساعدة له مع استطاعته ذلك.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات والغرامة إذا نشأ عن الفعل وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص. فإذا توفر ظرف آخر من الظروف الواردة في الفقرة السابقة تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على سبع سنوات والغرامة " ( ). ويشترك القتل غير العمدي مع القتل العمدي في ركنين هما محل الاعتداء والركن المادي ، ويختلف عنه في الركن الثالث وهو الركن المعنوي . فالقتل غير العمدي يشترك مع القتل العمدي في محل الاعتداء ، وهو حق الإنسان في الحياة ـ الذي يتطلب أن يكون المجني عليه إنساناً على قيد الحياة وقت ارتكاب الفعل الإجرامي .
كما يشترك القتل غير العمدي مع القتل العمدي في الركن المادي الذي يتحقق بارتكاب فعل الاعتداء على الحياة الذي يترتب عليه إزهاق روح المجني عليه. أي أن عناصر الركن المادي للقتل غير العمدي هي: فعل الاعتداء على الحياة ، والنتيجة المتمثلة في إزهاق روح المجني عليه، وعلاقة السببية بين الفعل الإجرامي والنتيجة . وقد بينت المادة 342 عقوبات اتحادي الركن المادي في القتل غير العمدي بقولها : " ....من تسبب بخطئه في موت شخص .... " وللنتيجة وعلاقة السببية أهمية خاصة في القتل غير العمدي ، فوفاة المجني عليه بسبب خطأ الجاني يقيم مسئوليته عن القتل غير العمدي ، ومؤدى ذلك أن تخلف النتيجة أو علاقة السببية يحول دون مساءلة الجاني عن قتل غير عمدي ، سواء في صورته التامة لتخلف أحد عناصر الركن المادي ، أو في صورة الشروع حيث لاشروع في الجرائم غير العمدية ، مع الإشارة إلى أن تخلف الوفاة قد يترتب عليه مسئولية المتهم عن الإصابة غير العمدية ، وذات الحكم ينطبق لو انقطعت علاقة السببية بين خطأ المتهم والوفاة ، كما لو ارتبطت هذه النتيجة بسبب آخر كخطأ الطبيب الجسيم في العلاج .
وأما وجه الاختلاف بين القتل غير العمدي والقتل العمدي ، فيتمثل في الركن المعنوي الذي يتخذ صورة القصد الجنائي في القتل العمدي ، وصورة الخطأ في القتل غير العمدي . لذلك سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين ، نخصص الأول لدراسة الركن المعنوي في القتل غير العمدي ، ونتناول في الثاني دراسة العقوبات التي حددهـا القانون للقتل غير العمدي في صورته البسيطة ثم المشددة .
المبحث الأول
الخطــــــأ
سوف نقسم هذا المبحث إلى عدد من المطالب بحسب ماتقتضيه دراسة الخطأ وبيان أحكامه وذلك على النحو التالي .
المطلب الأول
ماهيـة الخطـأ
لم يتصد قانون العقوبات الاتحادي لتعريف الخطأ وبيان ماهيته ، وإن ذكر صورا له في نص المادة 38 فقرة ثانية حيث أورد الإهمال وعدم الانتباه وعدم الاحتياط والطيش والرعونة وعدم مراعاة القوانين أو اللوائح أو الأنظمة أو الأوامر .
وقد عرف الفقه الخطأ بأنه كل فعل أو امتناع إرادي ، تترتب عليه نتائج لم يقصدها الفاعل ، ولكن كان بإمكانه ومن الواجب عليه أن يتجنبها . وعليه يمكن تعريف الخطأ في جريمة القتل بأنه نشاط إرادي يتضمن إخلالا بواجبات الحيطة والحذر يؤدي إلى وفاة المجني عليه ، في الوقت الذي كان في استطاعة الجاني ومن واجبه أن يحول دون تحققها.
ويمثل الإخلال بواجبات الحيطة والحذر الجانب المادي للخطأ ، غير أنه لايكفي لمساءلة من أخل بواجبات الحيطة والحذر عن النتيجة الإجرامية التي تحققت كأثر لإغفال تلك الواجبات عند ارتكاب نشاطه . فالقانون يتطلب وجود علاقة بين إرادة صاحب السلوك والنتيجة المتحققة أي وفاة المجني عليه، ويمثل هذا الجانب العنصر النفسي في الخطأ ويقوم على مدى توقع المتهم لحدوث نتيجة إجرامية كأثر لمخالفته واجبات الحيطة والحذر في سلوكه. فإذا لم يتوقع حدوث الوفاة نتيجة لنشاطه ،مع أنه كان في استطاعته ومن واجبه أن يتوقعها ويحول دون تحققها كان الخطأ غير واعي أي بدون تبصر، كما لو تركت أم كوبا به مادة سامة على طاولة بالقرب من يد طفلها دون أن يرد بخلدها أن بإمكان طفلها أن يشرب من الكوب ويموت ، ويحدث أن يشرب الطفل فعلا المادة السامة ويموت . فجوهر الخطأ غير الواعي (البسيط) هو انتفاء علم الجاني بالنتائج الضارة لنشاطه الإرادي لخمول في إدراكه منعه من توقع آثار هذا النشاط والعمل على تفاديها خمولاً ما كان ليحدث لو بذل ما بإمكانه من حيطة ( ) .
أما إذا كان المتهم يتوقع حدوث الوفاة نتيجة لسلوكه دون أن تتجه إليها إرادته ، بل كان يأمل في عدم تحققها ، ويعتقد بأنها لن تتحقق اعتمادا على مهارته ، فإن الخطأ يكون في هذه الحالة خطأ واعياً أي بتبصر ، كمن يقود سيارته بسرعة زائدة في شارع مزدحم بالمارة ، فيقتل أحدهم ، فهذا السائق توافر لديه العلم عند إتيان السلوك الخطر بإمكان تحقق وفاة إنسان كنتيجة لنشاطه ، ومضى في ارتكابه مقتنعاً بعدم تحققها اعتماداً على مهارته في قيادة السيارة . فيسأل الجاني على أساس إغفاله ما كان ينبغي عليه من إجراءات لمنع تحقق النتيجة الإجرامية ، وهذا الإغفال ما كان ليقع لو بذل ما في وسعه من حيطة وحذر .
المطلب الثاني
صـــور الخطــأ
أورد المشرع الاتحادي صور الخطأ في المادة 38/2 عقوبات على سبيل المثال، وهي تتسع لتشمل مختلف أنواع النشاط الذي يؤدي إلى نتائج مجرمة غير مقصودة من الفاعل . ويكفي لقيام المسئولية عن الخطأ غير العمد أن تتحقق أي صورة من الصور التي أوردها المشرع ، فكل صورة تعد خطأ قائماً بذاته يرتب المسئولية . ويمكن تقسيم صور الخطأ إلى طائفتين : الأولى تضم صور الخطأ العام ، والطائفة الثانية تضم الخطأ الخاص .
أولاً : صورة الخطأ العام :
تضم هذه الطائفة الإهمال، الرعونة، وعدم الاحتياط وتنطوي على مخالفة للواجبات التي تستمد من الخبرة الإنسانية .
1- الرعونة : تعني الرعونة لغة الخفة والطيش، ويراد بها سوء التقدير أو نقص المهارة أو الجهل بالقواعد الأساسية والأصول الفنية التي يتعين العلم بها. ويعني سوء التقدير إقدام الشخص على عمل دون إدراك لخطورتـه ولما قـد ينجم عنـه من نتائج ضارة، فإذا كان تصرف الشخص
العادي في موقف معين يتسم بالروية والحيطة لتقدير نتائج تصرفه، نجد الجاني يندفع لإتيان السلوك دون إعمال ذلك التقدير. ومن ذلك أن يغير قائد السيارة اتجاهه فجأة دون أن ينبه المارة فيصدم شخصاً ( ). وأما نقص المهارة فيعني إقدام الشخص على عمل تنقصه الكفاءة الفنية اللازمة لمباشرته، فهو بهذا السلوك يخالف واجباً من الواجبات التي تفرضها الخبرة الإنسانية العامة، والتي تقتضي ألا يباشر الإنسان أمراً يجهله، كمن يقوم بقيادة سيارة وهو يجهل أصول القيادة فيصيب إنساناً.
ويعني الجهل بالأمور الفنية التي يتعين العلم بها، قيام صاحب المهنة أو الحرفة أو الفن بعمل يدخل في اختصاصه الفني دون مراعاة الأصول العلمية الثابتة التي يفترض علمه بها ( )، كالمهندس الذي يخطئ في تصميم الرسم الهندسي لمبنى فينهار بعد تشييده، والصيدلي الذي يخطئ في تحضير المادة المخدرة التي تستخدم في إجراء عملية جراحية مما أدى إلى تسمم المريض ووفاته.
2- الإهمال : يراد به عدم اتخاذ الجاني الاحتياطات التي يقتضيها واجب الحيطة والحذر، وتمليها الخبرة الإنسانية العامة على من كان في مثل ظروفه، لأن من شأنها أن تحول دون حدوث النتيجة الإجرامية . فالخطأ في الإهمال يحدث بطريق سلبي يتمثل في ترك واجب، أو الامتناع عن تنفيذ أمر معين. وفي ذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا بأن " .... المقصود بالإهمال كصورة من صور الخطأ التي تقوم بها المسئولية ...... هو حصول الخطأ بطريق سلبي نتيجة ترك واجب أو الامتناع عن تنفيذ أمر ما، فتشمل هذه الصورة الحالات التي يقف فيها المتهم موقف سلبياً، فلا يتخذ الاحتياطات التي يدعو إليهـا الحذر وكان من شأنها أن تحول دون حدوث النتيجة...."( ).
ومن أمثلة هذه الصورة عدم اتخاذ حارس الحيوان الاحتياطات الكافية لمنع أذاه عن الناس، وترك المتهم طفلاً بمفرده بجوار موقد غاز مشتعل عليه ماء، فيسقط عليه الماء المغلي فيموت، وعدم إجراء مالك المبنى أعمال الصيانة اللازمة لـه، فينهار على الساكنين فيه .
3- عدم الاحتياط : يعني عدم الاحتياط صورة الخطأ الواعي أي الخطأ بتبصر، ويتمثل في إقدام الشخص على فعل كان يجب عليه الامتناع عنه لكونه يدرك خطورته، ويتوقع أن يترتب عليه ضرر، ومع ذلك يمضي قدما في فعله دون اتخاذ الاحتياطات التي من شأنها الحيلولة دون تحقق الضرر.
ومن أمثلة عدم الاحتياط ، قيام الأم بتنويم طفلها الرضيع بجوارها فتنقلب عليه أثناء نومها فتقتله، وسائق السيارة الذي يسرع بها في طريق غاص بالمارة فيصيب أحدهم، وصاحب السفينة التي يحملها عدداً من الركاب يزيد على حمولتها فتغرق بهم .
وقد أدانت المحكمة الاتحادية العليا طبيباً بسب قيامه بعد إجراء عملية الختان للمجني عليه، بفك الغيار في كل يوم ومشاهدة الجرح في غرفة غير معقمة، وذلك لعدة أيام، مما سبب تلوثاً في الجرح أسفر عن تشوه في ذكر المجني عليـه، فاعتبرت المحكمة ذلك خطأ صورته عدم التحرز في آداء العمل( ).
ثانياً : الخطأ الخاص :
يتمثل الخطأ الخاص في حالة مخالفة الشخص لما تفرضه القوانين واللوائح والأنظمة ويشكل صورة مستقلة من صور الخطأ ، يترتب عليها مسئولية الجاني عن القتل الخطأ حتى ولو لم يتوافر في حقه أي صورة من صور الخطأ الأخرى . ويستوي أن تتمثل المخالفة في الامتناع عما كان يجب القيام به ، أو في إتيان سلوك محظور كان يتعين اجتنابه .
ويستوي أن ترد قواعد السلوك الآمرة أو الناهية في نصوص صادرة عن السلطة التشريعية كالقوانين أو عن السلطة التنفيذية كاللوائح والقرارات والتعليمات الإدارية على اختلاف أنواعها ، أو عن أفراد عاديين كالأنظمة التي يضعها رب العمل لتنظيم العمل في منشآته .
وفي هذا الخصوص قضي بأنه " ...... وهذه الأسباب سائغة تكشف عن إحاطة الحكم بالدعوى عن بصر وبصيرة ، واستوفى عناصرها ومحص أدلتها واستخلص من واقعها ما انتهى إليه في قضائه بإدانة الطاعن ، وأنه هو المسئول وحده عن الحادث لتجاوزه الإشارة الضوئية وهي حمراء والانعطاف للناحية اليسرى مخالفاً تعليمات وقوانين السير والمرور مما أدّى إلى اصطدام السيـارة الأخـرى بها ووقـوع الحادث وهو ما يوفر في حقه ركن الخطأ ... " ( ) .
ويراعى في الخطأ الخاص أن مجرد مخالفة القوانين واللوائح والأنظمة لاتكفي بذاتها لمساءلة المتهم عن الوفاة التي أفضى إليها سلوكه ، وإنما يتعين أن تتوافر علاقة السببية بين مخالفة النصوص المذكورة ووفاة المجني عليه( ). غير أن انتفاء الخطأ الخاص، أي إثبات أن المتهم لم يخالف النصوص السابقة، لا يعني نفي الخطأ عن المتهم وانتفاء مسئوليته بالتالي عن النتيجة المتحققة، فقد تتوافر في النشاط الذي أتاه إحدى صور الخطأ العام كالإهمال أو عدم الاحتياط، ويكفي للإدانة توافر صورة واحدة للخطأ، فتقوم المسئولية عن قتل غير عمدي .
ولا يقع على سلطة الاتهام عبء إثبات الخطأ الخاص، لأن المشرع وضع قرينة على توافر الخطأ بمجرد ثبوت مخالفة القوانين أو اللوائح أو الأنظمة.
ومن أمثلة الخطأ الخاص قيادة السيارة في اتجاه ممنوع ، قيادة السيارة بسرعة تجاوز الحد الأقصى الذي تسمح به قوانين المرور .
المطلب الثالث
معيــار الخطــأ
تباينت آراء الفقه بشأن تحديد المعيار الذي يجب الاعتداد به في تقدير العناية الواجب على الجاني اتخاذها لتفادي وقوع النتيجة الضارة .
فقد اتجه البعض إلى الأخذ بمعيار شخصي، ومقتضاه وجوب النظر إلى الجاني وظروفه الخاصة، كخبراته الشخصية، ودرجة ذكائه ومستوى تعليمه، فتتم المقارنة بين ما صدر منه من تصرف مشوب بشبهة الخطأ، وبين ما كان يمكن أن يصدر منه في نفس الظروف من تصرف آخر كان يعد عادياً ومقبولاً، فإذا تبين أنه كان بمقدوره تجنب السلوك الخاطئ، وتفادي ما أحدثه بالغير من قتل غير متعمد عدّ مخطئاً، وإلا انتفى الخطأ في حقه.
غير أن البعض الآخر يرى أن يكون المعيار في هذا الشأن موضوعياً، ومقتضاه المقارنة في تقدير توافر الخطأ بين ما صدر من الجاني، وما كان يصح أن يصدر من شخص عادي متوسط الحذر والاحتياط، فإذا تبين أن الجاني التزم في سلوكه القدر من الحيطة والانتباه الذي يلتزمه هذا الإنسان العادي، فلا يتوافر الخطأ في حقه، أما إذا تبين أنه نزل في سلوكه عن هذا القدر، فلم يتوقع النتيجة الإجرامية ولم يعمل على تفاديها، في الوقت الذي كان بإمكانه توقعها، أو توقع النتيجة الضارة غير أن الاحتياطات التي اتخذها كانت أقل مما يتخذه الشخص العادي، عندئذ يعد مخطئاً.
والسائد أن معيار الخطأ قوامه الشخص المعتاد من نفس الفئة التي ينتمي إليها الجاني، مضافاً إليه الظروف الخارجية التي أحاطت بالجاني خاصة ما تعلق منها بمكان النشاط وزمانه. فإذا ثبت أن الجاني التزم في تصرفه قدراً من الحيطة يناسب ما كان يلتزمه الشخص المعتاد إذا وجد في ذات ظروفه، فلا ينسب إليه الخطأ، أما إذا بذل قدراً من الحيطة والحذر أقل من ذلك، فإنه يكون مخطئاً.
ولقد تبنى القضاء الإماراتي المعيار الموضوعي في تقدير توافر الخطأ، ومن ذلك أن قضت المحكمة الاتحادية العليا في أحد أحكامها بأنه ".... وما كان له أن يتعامل مع الجرح بكثرة فتحه بناء على طلب الشاكي والانصياع إليه ودون أن يكون ذلك في غرفة معقمة ، وكان عليه أن يمتنع ويعمل وفق توجهاته هو، وإلا فيكون قد قصر طبيا . وأخفق في مراعاة مستوى السلوك الذي كـان الطبيب العادي قـادراً على مراعاته ، فيقع تحـت طائلة المسئولية ... "( ) .
كما قضت في حكم آخر بأنه : " متى كان الحكم المطعون فيه قد عول في تكوين عقيدته ببراءة المطعون ضده على عدم إهماله أو تحرزه بسبب عدم توقع الإنسان العادي لأن ينام أحد العاملين في موقع العمل وأثناء ساعات العمل تحت سيارة تقف في العراء ومازال سائقها يجلس خلف عجلة قيادتها بما يستدل منه أنه سيتحرك بها في أية لحظة وبذلك يكون تصرف المجني عليه وقد استلقى تحت السيارة من التصرفات الشاذة غير المتوقعة في ظروف الحادث، هذا ولما كان البين من الحكم أنه أحاط بالدعوى عن بصر وبصيرة وأقام قضاءه على أسباب سائغة فإنه بذلك قد انحسر عن الخطأ في تطبيق القانون "( ) .
المطلب الرابع
الخطـأ المشـترك
إذا كانت الوفاة في جريمة القتل الخطأ قد نجمت عن خطأ الجاني وحده، فلا صعوبة في تحديد المسئولية عندئذ ، حيث يعد مرتكب هذا الخطأ فأعلاً لجريمة القتل الخطأ . على أنه قد يساهم في تحقيق هذه النتيجة إلى جانب خطأ الجاني خطأ المجني عليه أو خطأ الغير ، فما أثر تلك العوامل على مسئولية المتهم عن الوفاة ؟
الفرع الأول : خطأ شخص آخر :
إذا تعددت الأخطاء فنتجت عنها وفاة المجني عليه ، يسأل كل من ساهم بخطئه في تحقيق الوفاة، دون أن يؤثر ذلك في مسئولية غيره . فتعدد الأخطاء المتسببة في حدوث النتيجة الإجرامية يستوجب مساءلة كل من أسهم فيها أيا كان قدر الخطأ المنسوب إليه، مع التمييز بين من يساهم بخطئه في القتل الخطأ بصفة أصلية فيسأل باعتباره فاعلا في الجريمة، ومن يساهم فيها بصفة ثانوية فيسأل باعتباره شريكا فيها( ). ومن صور ذلك أن يتفق شخص مع خادمه على جمع النفايات الموجودة في مزرعته وإحراقها، فيقوم الخادم بتجميعها في مكان محدد، ويقوم المخدوم بصب المادة القابلة للاشتعال وإضرام النار، فإذا بشخص كان نائما في الجوار تمتد إليه ألسنة اللهب فيموت. فإذا أمكن أن ينسب للخادم والمخدوم الإخلال بواجب الحيطة والحذر، لعـدم تحققهما من خلو المكان ، يسأل كل منهما باعتباره فاعلاً في القتل الخطأ .
أما لو حرض شخص السائق على قيادة السيارة بأكثر من السرعة المسموح بها، فصدم شخصاً وقتله ، يسأل السائق عن القتل الخطأ بصفته فاعلا فيه ، ويسأل من حرضه باعتباره شريكا بالتسبب .
وفي هذا الخصوص قضت محكمة النقض المصرية بأن " تعدد الأخطاء الموجبة لوقوع الحادث يوجب مساءلة كل من أسهم فيها أيا كان قدر الخطأ المنسوب إليه ، يستوي في ذلك أن يكون سبباً مباشراً أو غير مباشر في حصوله ( ).
وقضت المحكمة الاتحادية العليا بأنه : " ...... لما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد حصر مسئولية القتل الخطأ في الطاعن وآخر وحملهما دية المجني عليه مناصفة دون المستأنف الثالث وذلك على سند من أن الثابت من التقارير التي بملف القضية أن سبب انهيار البناية ناتج عن استعمال المقاول الطاعن للشدات المعدنية ولم يراع الدقة في تركيبها أفقيا وتثبيتها. وقد وضعت بعض القوائم الحديدية للشدة على طابوق بعضه صامت وبعضه فارغ، والبعض الآخر على فضلات خشبية. وهذا مخالف للمواصفات الفنية والأصول الصناعية وهي مسئولية النجار الطاعن والشركة المقاول ممثلة في المهندس المشرف على الموقع . وأن المسئولية حددها تقرير بلدية العين في أن المسئول المقاول .... وفي نظر المحكمة هو النجار والشركة المقاول الأصلي. وأن النجار الطاعن أخبر أكثر من مرة بأن الدعامة والشدات غير صالحة واستمر في العمل مع علمه بضعف الدعائم والشدات مما يجعله مسئولاً عن النتيجة. وهذه الأسباب سائغة وتكفي لحمل قضاء الحكم فيما انتهى إليه من تحميل الطاعن وآخر مسئولية الحادث " ( ).
الفرع الثاني : خطأ المجني عليه :
قد يتسبب في حدوث الوفاة خطأ المتهم وخطأ المجني عليه، وعندئذ لا يجب خطأ المجني عليه خطأ المتهم ، فتظل مسئولية المتهم قائمة، طالما كان خطأ المجني عليه مألوفاً ومتوقعاً ، وباستطاعة المتهم ومن واجبه أن يتوقعه . ومن أمثلة ذلك أن يهمل المجني عليه في علاج نفسه إهمالاً يتصور أن يصدر ممن هو في بيئته .
وفي ذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا بأنه :"من المقرر أن اشتراك المجني عليه في الخطأ لايعفي الجاني من المسئولية بل تخفف العقوبة بما في ذلك الدية بقدر نصيب المجني عليه في الخطأ إذ إن المجني عليه يكون قد أعان على نفسه لأن فعله في نفسه يكون هدراً، وعندئذ ينقص من الدية بمقـدار خطـأ المجني عليـه ويقضي بباقيها على من شارك في الفعل بخطئه " ( ) .
فإذا كان خطأ المجني عليه شاذاً وغير متوقع، بحيث لم يكن في استطاعة الشخص العادي توقعه، وبالتالي تفادي الوفاة الناجمة عنه، فإن المتهم لا يسأل عن هذه الوفاة التي لم يكن باستطاعته ولا من واجبه توقعها، حيث لا تكليف بمستحيل. فخطأ المجني عليه استغرق خطأ المتهم، وقطع علاقة السببية بينه وبين الوفاة التي حدثت.
ويختص قاضي الموضوع بتقدير خطأ المجني عليه، في ضوء الوقائع التي أحاطت به ، لتحديد ما إذا كان مألوفاً ومتوقعاً أو شاذاً ومن شأنه قطع علاقة السببية بين الوفاة وخطأ المتهم . ويلتزم القاضي بأن يبين في حكمه نوع الخطأ الذي صدر من المجني عليه ، ومدى مساهمته في إحداث النتيجة الإجرامية ( ) .
وفي هذا الشأن قضت المحكمة الاتحادية العليا بأن " .... واكتفت محكمة البداية ومحكمة الاستئناف في الاعتماد فقط على ماجاء في اعتراف المتهم بوقوع الحادث وأنه هو المخطئ ، من غير أن تناقش السرعة التي كان يسير بها المجني عليه ليتبين من ذلك ما يتحمله المطعون ضده من نسبة في المسئولية وما يتحمله المجني عليه من الخطأ الذي نشأ عنه الحادث .... الأمر الذي يعيب الحكم المطعون فيه ويستوجب نقضه مع الإحالة " ( ) .
المطلب الخامس
إثبات الخطأ الشخصي
تطبيقاً لمبدأ شخصية المسئولية الجنائية لايسأل الشخص إلا على أساس خطأ شخصي يتعين إثباته ، فلا يسأل جنائياً عن فعل غيره مطلقاً، وإن كان مكلفاً بالإشراف عليه، إلا إذا تم إثبات أنه ارتكب خطأ شخصياً مرتبطاً سببياً بالوفاة التي تحققت. وفي ذلك قضي بأن "مناط العقاب في جريمة القتل الخطأ هو ثبوت خطأ شخصي في جانب المتهم والذي يتسبب عنه الضرر، فلا يسأل الشخص عن فعل غيره إذا لم يثبت أنه ارتكب خطأ شخصياً مرتبطاً بالنتيجة ارتباط السبب بالمسبب"( ).
وتكلف سلطة الاتهام بإثبات قيام الخطأ في حق المتهم بإقامة الدليل على إهماله أو عدم احتياطه أو رعونته أو مخالفته للقوانين أو اللوائح أو القرارات أو الأنظمة أو الأوامر. كما يتعين عليها إثبات توافر علاقة السببية بين الخطأ ووفاة المجني عليه. وعليه لايكلف المتهم بإثبات عدم توافر الخطأ في جانبه.
ويجب على المحكمة أن تبين في حكمها وجه الخطأ في سلوك المتهم إذا أدانته بتهمة القتل الخطأ. على أن ذلك لايعني وجوب ذكر لفظ الخطأ ، أو الإشارة إلى إحدى صوره كالإهمال أو الرعونة، بلى يكفي أن يكون ذكر الوقائع وما أحاط بها من ملابسات وكيفية حدوثها شاهداً بثبوت الخطأ في حق المتهم . وفي ذلك قضى بأنه : "من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن تقدير الخطأ المستوجب لمسئولية مرتكبه في جريمة القتل الخطأ مما تستقل بتقديره محكمة الموضوع متى رَكنت في تقديرها لأسباب سائغة " ( ).
فإذا كان الخطأ خاصاً يكفي أن تبين محكمة الموضوع سلوك المتهم الذي قدرت أنه يخالف القوانين أو اللوائح أو الأنظمة أو الأوامر .
وليس لمحكمة النقض أن تراقب الوقائع التي استخلص منها قاضي الموضوع ثبوت الخطأ في حق المتهم ، ولها أن تبسط رقابتها على سلامة الاستدلال من هذه الوقائع على توافر الخطأ أو انتفائه .
المبحث الثاني
عقوبات القتل غير العمدي
حددت المادة 342/1 عقوبات اتحادي عقوبة القتل غير العمدي في صورته البسيطة، ونصت الفقرتان الثانية والثالثة من ذات المادة على ظروف تشدد عقوبة القتل غير العمدي، لذلك تقتضي الدراسة تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في الأول بيان عقوبة القتل غير العمدي البسيط، وفي الثاني نستعرض الظروف التي تشدد عقوبة القتل غير العمدي وآثارها.
المطلب الأول
عقوبة القتل غير العمدي في صورته البسيطة
نصت على هذه العقوبة المادة 342 من قانون العقوبات الاتحادي في فقرتها الأولى، وجعلتها الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين، حيث نصت المادة المذكورة على أنه "يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين من تسبب بخطئه في موت شخص " ( ) .
ويلاحظ أن المشرع الاتحادي لم يضع حدا أقصى أو أدنى لأي من عقوبتي الحبس والغرامة، ومدلول ذلك تطبيق الحدود العامة المقررة لهاتين العقوبتين. وعليه تطبق المادة 69 عقوبات اتحادي والتي قررت أن الحد الأدنى للحبس لايقل عن شهر، ولا يزيد حده الأقصى على ثلاث سنوات مالم ينص القانون على خلاف ذلك.
أما بالنسبة للغرامة، فلما كانت الجريمة جنحة ، فالحد الأدنى للغرامة يزيد عن ألف درهم تطبيقاً لنص المادة 29 عقوبات اتحادي التي تنص على أن " الجنحة هي الجريمة المعاقب عليها بعقوبة أو أكثر من العقوبات الآتية:
2 – الغرامة التي تزيد على ألف درهم" .
وأما الحد الأقصى للغرامة فلا يزيد عن ثلاثين ألف درهم تطبيقاً لنص المادة 71 من قانون العقوبات الاتحادي.
غير أن العقوبة على النحو المتقدم بيانه تبدو غير متناسبة مع جسامة النتيجة التي أفضى إليها خطأ المتهم ، والتي تتمثل في إهدار حياة بشرية . لذلك يبدو من المناسب زيادة مقدار العقاب في هذه الجريمة بتعديل الحدين الأدنى والأقصى للحبس، وزيادة الحد الأدنى للغرامة في الأقل، مع الاتجاه إلى الجمع بينهما على سبيل الوجوب .
المطلب الثاني
الظروف المشددة لعقوبة القتل غير العمدي
نصت على هذه الظروف وبينت أثرها في التشديد الفقرتان الثانية والثالثة من المادة 342 عقوبات اتحادي ، ويستند التشديد في هذه الظروف إما إلى جسامـة الخطأ، أو جسامة الضرر، أو اجتماع جسامة الخطأ والضرر معا.
الفرع الأول : الظروف التي ترجع إلى جسامة الخطأ :
حددت هذه الظروف الفقرة الثانية من المادة 342 عقوبات اتحادي بقولها : "وتكون العقوبة الحبس مدة لاتقل على سنة والغرامة إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو كان تحت تأثير سكر أو تخدير عند وقوع الحادث أو امتنع حينئذ عن مساعدة المجني عليه أو عن طلب المساعدة له مع استطاعته ذلك " .
وقد أورد هذا النص الظروف الثلاثة الآتية : الخطأ المهني ، والسكر أو التخدير، والنكول عن مساعدة المجني عليه ، وسنتولى تفصيلها على النحو التالي :
أولاً : الخطأ المهني ( ) :
يفترض هذا الظرف أن الجاني يمارس وظيفة أو مهنة أو حرفة ، تخضع ممارستها لأنظمة تحدد القواعد التي ينبغي أن يلتزم بها من يمارسونها ، ويستوي أن تكون هذه القواعد قانونية أو لائحية أو عرفية تقرها أصول العلم أو الفن الذي تمارس المهنة أو الحرفة وفقا له . ولا يهم بالنسبة للموظف أن يكون موظفاً في الحكومة أو في قطاع خاص ، مادامت ممارسة الوظيفة تخضع لقواعد قانونية أو لائحية أو اتفاقية يلتزم بها العاملون في آدائهم للأعمال المنوطة بهم .
ومن ثم إذا كان الشخص غير موظف ولا يمارس مهنة أو حرفة تخضع لقواعد تنظمها انتفى الظرف المشدد بالنسبة للقتل الخطأ الذي حققه ، وطبقت عليه حينئذ عقوبة القتل غير العمدي في صورته البسيطة .
غير أن ممارسة الوظيفة أو المهنة أو الحرفة لاتكفي لتوافر ظرف التشديد إذا ارتكب المتهم قتلاً غير عمد ، بل يلزم أن تكون الوفاة قد نجمت عن إخلال المتهم بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته .
فإذا كان ما صدر عن المتهم من خطأ لايمثل إلا إخلالاً بواجبات الحيطة والحذر التي تفرضها الخبرة الإنسانية العامة على كافة الأفراد ، لم يتوافر الظرف المشدد للقتل غير العمد .
ويكفي محض الإخلال بأصول الوظيفة أو المهنة أو الحرفة دون اشتراط درجة جسامة معينة فيه ، فيستوي أن يكون الإخلال بتلك الأصول يسيراً أو جسيماً لتوافر ظرف التشديد . وتقدير توافر هذا الإخلال متروك لقاضي الموضوع في ضوء الظروف والوقائع التي أحاطت بالجريمة .
ومن صور هذا الظرف الطبيب الذي يجري عملية جراحية بأدوات غير معقمة فيترتب على استخدامها وفاة المريض ، وسائق السيارة التي يقودها ليلاً دون استخدام وسائل الإنارة فيها .
ثانياً : السكر والتخدير :
شدد المشرع الاتحادي عقوبة الجاني إذا كان تحت تأثير سكر أو تخدير عند ارتكابه الخطأ الذي نجمت عنه وفاة المجني عليه .
ولقد راعى المشرع ما يترتب على تناول المسكرات والمخدرات من تقليل وعي الشخص وإدراكه ، خاصة إذا كان يمارس عملا يقتضي منه أن يكون كامل السيطرة على إرادته . فغاية التشديد القضاء على أخطر أسباب الحوادث المرورية التي يترتب عليها الكثير من حالات الوفاة . فضلاً على ذلك فإن تناول الشخص للمسكر أو المخدر يزيد من جسامة الخطأ الذي أرتكبه، والذي أدى إلى الحادث الذي نجمت عنه الوفاة، فهو يضيف إلى الخطأ الأصلي خطأ آخر تمثل في تناوله مسكرا أو مخدراً قبل إتيان سلوكه، في الوقت الذي كان يتعين عليه فيه أن يتقيد بمزيد من الحيطة والحذر، لا تناول مواد من شأنها أن تنقص من قدرته على ضبط سلوكه ، واتخاذ الحيطة اللازمة بشأنه حتى لا يفضي إلى نتائج ضارة . ويتطلب توافر هذه الظروف توافر ما يلي :
1- أن يكون المتهم قد تعاطى مسكراً أو مخدراً باختياره ، وأن يكون قد ترتب على تعاطيه هذه المواد التأثير في وعيه وإدراكه . فإذا كان قد تناول المادة المسكرة أو المخدرة قهراً عنه ، أو على غير علم منه بحقيقتها، وترتب على تناولها التأثير في وعيه وإدراكه ، فلا يتوافر الظرف المشدد ، بل تنتفي مسئوليته الجنائية تطبيقاً للقواعد العامة .
ولا يشترط أن يفقد الشخص الوعي كله ، لأن النص لم يتطلب حالة السكر التام ، بل يكفي أن يتم تعاطي قدراً من المادة المسكرة أو المخدرة مما يؤدي إلى إنقاص الوعي والإدراك لدى المتهم ( ) .
2- التعاصر الزمني بين فقدان الوعي والإدراك الناجم عن تعاطي المادة المسكرة أو المخدرة ووقت ارتكاب الخطأ الذي تسبب في وفاة المجني عليه . ويعني ذلك وجوب توافر علاقة سببية بين نقص الإدراك والوعي الناجم عن تناول المادة المسكرة أو المخدرة ، وبين الواقعة التي ارتكبها المتهم وأدت إلى وفاة المجني عليه . ولا أهمية لكمية المادة المسكرة أو المخدرة التي يتناولها المتهم ، فالعبرة بأثرها المتمثل في نقص الوعي والإدراك وقت ارتكاب الفعل المحدث للوفاة ويستفاد ذلك من اشتراط المشرع وقوع الجريمة تحت تأثير سكر أو تخدير.
ثالثاً : النكول عن المساعدة :
يتحقق الظرف المشدد في هذه الصورة إذا كان المتهم قد نكل وقت الحادث عن مساعدة المجني عليه ، أو طلب المساعدة لـه مع قدرته على ذلك . ويقوم هذا الظرف بامتناع المتهم عن تقديم المساعدة للمجني عليه، أو عن طلب المساعدة لـه رغم استطاعته ذلك ، فقد تكون تلك المساعدة فعالة في الحيلولة دون تحقق الوفاة .
وتكمن علة التشديد في هذه الصورة، في أن الجاني يضيف إلى خطئه الذي أدى إلى وقوع الجريمة، خطأ آخر بامتناعه عن تقديم أو طلب المساعدة للمجني عليه. وإذا كان تقديم المساعدة للشخص الذي يتهدده خطر ما، واجباً يفرضه الضمير الإنساني وقواعد الأخلاق، فإن هذا الالتزام يتحول إلى واجب قانوني بالنسبة لمن تسبب بخطئه في وضع الغير في حالة الخطر، فإذا ما أخل بهذا الالتزام، ونكل عن تقديم المساعدة أو طلبها مع قدرته على ذلك، تشدد عقوبته.
ويتطلب توافر هذا الظرف أن يكون الجاني الذي اقترف الخطأ فتسبب في وقوع الجريمة، هو ذاته الذي نكل عن تقديم أو طلب المساعدة للمجني عليه، وعليه لو امتنع غيره عن تقديم المساعدة اللازمة للمجني عليه لما توافر الظرف في حقه، كما لو مرّ شخص بسيارته على منطقة، فوجد على جانب الطريق شخصاً مصاباً، فلم تسعفه ظروفه تقديم المساعدة له، فلا يسأل عن ظرف النكول عن المساعدة. كما يجب أن يكون باستطاعة الجاني تقديم المساعدة أو طلبها من الغير، فإذا ثبت أنه لم يكن بمقدوره إتيان ذلك، كما لو كان تقديم المساعدة يعرض حياة الجاني للخطر، عندئذ ينتفي الظرف المشدد في حقه. ويتعين أيضاً أن يكون من شأن المساعدة إنقاذ حياة المجني عليه، فإذا قدم المتهم قدراً من المساعدة للمجني عليه لم يكن فعّالاً في إنقاذ حياته، في الوقت الذي كان باستطاعته تقديم قدر أكبر يجدي في نفي النتيجة الإجرامية، فإن الظرف المشدد يتوافر بالنسبة له .
ومن البديهي أن المساعدة المتعين تقديمها أو طلبها للمجني عليه تتطلب عدم وفاته فور وقوع الخطأ من الجاني، أي وجوده على قيد الحياة والعمل على إنقاذه من خطر الوفاة. لذلك غالباً ما يتحقق هذا الظرف المشدد في حوادث المرور التي يصاب فيها المجني عليه بإصابات تقتضي نقله إلى المستشفى ، لكن الجاني يلوذ بالفرار بغية التخلص من المسئولية عن الحادث الذي تحقق بخطئه، فإذا توفي المجني عليه، سئل الجاني عن قتل خطأ مشدد لامتناعه عن تقديم أو طلب المساعدة للمجني عليه .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن توافر القتل غير العمدي المتصل بأحد الظروف الثلاثة السابق بيانها وهي: الإخلال بما تفرضه أصول الوظيفة أو المهنة أو الحرفة، أو تعاطي المسكرات أو المخدرات، أو النكول عن المساعدة، يستوجب توقيع عقوبة الحبس لمدة لاتقل عن سنة والغرامة تطبيقاً لنص المادة 342/2 من قانون العقوبات الاتحادي.
الفرع الثاني : الظرف المشدد الذي يرجع إلى جسامة الضرر( ) :
يشدد المشرع الاتحادي عقوبة القتل غير العمدي استناداً إلى جسامة النتيجة التي تحققت، وذلك بمقتضى المادة 342/3 عقوبات اتحادي . وتتحدد جسامة النتيجة الإجرامية بعدد ضحايا الحادث ، فإذا نشأ عن خطأ الجاني وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص، توافر ظرف التشديد .
وترجع علة التشديد في هذه الصورة إلى جسامة الضرر الذي أصاب المجتمع بوفاة أكثر من ثلاثة أشخاص بخطأ واحد، فجسامة الضرر تكشف عن جسامة الخطأ الذي ارتكبه الجاني، مما يستوجب تشديد عقوبته .
ويترتب على توافر هذا الظرف توقيع عقوبة الحبس على الجاني على ألا تقل مدته عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات والغرامة . ويلاحظ أن العقوبتين وردتا على سبيل الوجوب ، فلا يملك القاضي إلا أن يحكم بهما معا.
الفرع الثالث : الظرف المشدد الذي يرجع إلى جسامة الخطأ وجسامة الضرر معاً ( ) :
أورد المشرع الاتحادي هذا الظرف في عجز الفقرة الثالثة من المادة 342 عقوبات اتحادي ، وفحواه أنه إذا اجتمع ظروف من الظروف التي تشدد العقاب لجسامة الخطأ مع ظرف التشديد المتعلق بجسامة الضرر ، كما لو ارتكاب الجاني خطأ مهنيا ، أو كان متعاطياً مادة مسكرة عند ارتكاب الخطأ ، فترتب على الحادث وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص ، كانت العقوبة الحبس مدة لاتقل عن ثلاث سنوات ولاتزيد على سبع سنوات والغرامة .
ويكمن سبب التشديد هنا في أن الخطأ على درجة كبيرة من الجسامة، وقد كشفت تلك الجسامة فداحة الأضرار الناجمة عنه ، مما اقتضى معه تشديد العقوبة بالجمـع بـين الحبـس والغرامـة من جهة ، ورفع الحدين الأدنى والأقصى لعقوبة الحبس .