مشروعية الإكراه على الكلام أو الاعتراف
لا يجوز إكراه المتهم لحمله على الإقرار، قال ابن حزم: [....، فلا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب ولا بسجن ولا بتهديد، لأنه لم يوجب ذلك قرآن ولا سنة ولا اجماع، ولا يحل أخذ شيء من الدين إلا من هذه الثلاثة الأصول، بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقول: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام». فحرم الله تعالى البشرة والعرض، فلا يحل ضرب مسلم ولا سبه إلا بحق أوجبه قرآن أو سنة ثابتة].
وإن من أهم شروط صحة الإقرار الاختيار: فالمقر مخبر يصدق في إقراره لغلبة الظن برجحان صدقه على كذبه، إذ لا يتصور من العاقل عادة أن يخبر عن نفسه بشيء يعرف أنه ضار بها ما لم يكن له ما يبرره.
فإذا أكره على الإقرار ترجح جانب الكذب في اخباره على الصدق بدلالة الإكراه، ويغلب على الظن آنذاك أنه قصد بإقراره دفع ضرر أكبر، وهو ضرر الإكراه، أو ألم التعذيب، ونحوه. لذلك فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من أكره على الإقرار بحق أو جناية فإقراره باطل، ولا يترتب عليه شيء من الأشياء، للأدلة اليقينية التالية:
* قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، فجعل سبحانه وتعالى الإكراه مسقطاً لإثم التلفظ بالكفر وعقوبته، فيكون مسقطاً لاعتبار التلفظ بما عداه من باب أولى.
* ولقوله، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، حديث صحيح أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، كما رُويَ مثله عن أبي ذر.
* ولما تواتر عنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، من تحريم التعذيب والترويع، كما هو مفصل في ملحق خاص. ولا يمكن الإكراه إلا بتعذيب أو تهديد بإلحاق أذى بالأهل والأحبة، أو ترويع، وهذا كله منكر شنيع، وحرام كبير، لا يجوز.
* وأخرج الطبراني، والنسائي، وأبو داود بإسانيد قوية جياد، فقال أبو داود في «سنن أبي داود»: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ثنا بقية ثنا صفوان ثنا أزهر بن عبد الله الحرازي أن قوما من الكلاعيين سرق لهم متاع فاتهموا أناسا من الحاكة فأتوا النعمان بن بشير صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فحبسهم أياما ثم خلى سبيلهم فأتوا النعمان فقالوا خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان فقال النعمان ما شئتم إن شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم فقالوا هذا حكمك فقال هذا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو داود: (إنما أرهبهم بهذا القول، أي لا يجب الضرب إلا بعد الاعتراف)]، قول النعمان بن بشير: (هذا حكم الله، عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم)، هو بلاغ عن معتقده هو، وقد تكون حقيقة الأمر كذلك، وقد لا تكون. وكذلك سجنه للحاكة ابتداءً اجتهاد منه، فليس في الأثر شيء مرفوع إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يعتد به، في هذين الأمرين، وقد أصاب الإمام أبو داود عندما عقب قائلاً: (إنما أرهبهم بهذا القول، أي لا يجب الضرب إلا بعد الاعتراف)
* وجاء في «مصنف عبدالرزاق»: [حدثنا ابن جريج قال سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول أخبرني عبد الله بن أبي عامر قال: انطلقت في ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سرقت عيبة لي، ومعنا رجل يتهم، فقال أصحابي: يا فلان أد عيبته! فقال: ما أخذتها، فرجعت إلى عمر بن الخطاب فأخبرته، فقال: كم أنتم؟ فعددتهم، فقال: أظنه صاحبها الذي اتهم، قلت: لقد أردت يا أمير المؤمنين أن آتي به مصفوداً، قال: أتأتي به مصفوداً بغير بينة؟ لا أكتب لك فيها، ولا أسأل لك عنها، قال: فغضب، قال: فما كتب لي فيها، ولا سأل عنها]، قلت: هذا في غاية الصحة، مسلسل بالأئمة الثقات الأثبات بصريح التحديث إلى عمر بن الخطاب. فهذا عمر ينكر أشد الإنكار أن يؤتى بأحد مصفوداً من غير بينة، ويغضب فيهدر حق صاحب المال المسروق بمجرد تصريحه أنه كان يريد القبض على المتهم دون بينة، فالإكراه من باب أولى. وعمر بن الخطاب، هو رئيس دولة: إمام وخليفة راشد، وهو أولى بالاتباع من النعمان بن بشير.
* وعن عمر رضي الله عنه: (ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أجعته أو أوثقته أو ضربته).
* وعن شريح قال: (القيد كره، والوعيد كره، والسجن كره، والضرب كره).
* وعن الشعبي قال: (المحنة بدعة).
ومما تقدم يتضح أن أهل العلم المعتبرين، ومن بينهم إمام وخليفة راشد، لم يعتبروا ممارسة أي ضغط على المتهم من قبيل السياسة الشرعية، بحيث يترك أمرها لولي الأمر إن شاء فعل، وإن شاء ترك، كما يزعم فقهاء السلاطين أخزاهم الله، بل إن ذلك مما حرمه الله تعالى على لسان نبيه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حرمة قاطعة: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه»، ولقوله: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام».
ولعدم مشروعية الإكراه على الكلام ذهب جماهير العلماء إلى إبطال الإقرار الناجم عن ضغط، وعدم ايجاب أي شيء به. وذهبت قلة من العلماء إلى تصحيح الإقرار مع الإكراه بضرب أو حبس إذا كان المتهم معروفاً بالفساد والفجور كالسرقة ونحوها، وليس لهم في ذلك دليل معتبر، ولكن لهم بعض الشبهات، التي آثروا اتباعها تاركين المحكمات الثابتة، كعادة أهل الهوى والزيغ، والتي سندحضها فيما يلي، ومنها:
الشبهة الأولى: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلْقة، واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئاً، ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مَسْكاً فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت بنو النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: «مافعل مَسْك حيي الذي جاء به من النضير؟»، فقال: (أذهبته النفقات والحروب!!)، فقال: «العهد قريب، والمال أكثر من ذلك!!»، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب. وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة. فقال: (قد رأيت حيياً يطوف في خربة ها هنا، فذهبوا وطافوا، فوجدوا المسك في الخربة)، والحديث صحيح ثابت، أخرجه البيهقي، وأخرج مثله أبو داود، وابن حبان، وغيرهما، مطولاً ومختصراً.
والحديث كما هو ظاهر في محاربين نكثوا بعد ما قاتلوا وألجئوا إلى العهد فعاهدوا أن لا يغيبوا شيئاً فغدروا، وكتموا أنهم قد غيبوا شيئاً خطيراً كل القرائن تشير إلى أنهم غيبوه، والدار ما زالت دار حرب، حيث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقم أحكام الإسلام فيها بعد، ولم ينصب عليها والياً، وما زال يحصي الأموال والغنائم ويباشر قسمتها، فأين هذا من تعذيب مسلم متهم، أو مواطن في دار الإسلام، أو معاهد يقيم في دار الإسلام أو يعبر فيها، وكلهم ما يزال على البراءة الأصلية؟! وأين هذا من أحكام دار الإسلام؟!
الشبهة الثانية: ومن شبههم كذلك ما جاء في أخبار غزوة بدر الكبرى عندما وقع بعض غلمان قريش أسرى بيد المسلمين، فأوتي بهم إلى عريش النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو يصلي فاستنطقه بعض الصحابة فأخبروهم بالحق ألا وهو نجاة قافلة قريش، وإقبال جيشها محارباً وأنهم سقاة الجيش، فكرهوا ذلك وضربوهم ليقروا بأنهم مع القافلة وأن ليس ثمة جيش لقريش، فأقروا بذلك تحت الضرب. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من صلاته أقبل عليهم وقال منكراً: «إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم!»:
* كما جاء في «السيرة النبوية»، (ج: 3 ص: 163 وما بعدها)، و قال ابن إسحاق كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير: [ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن ابي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه الى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فقالا: (نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء)، فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه ثم سلم وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله: إنهما لقريش، أخبراني عن قريش!»، ...، إلخ].
هذا إسناد مرسل في غاية الجودة.
ــ وجاء نحو هذا في «مغازي الواقدي»، (ج: 1 ص: 49 وما بعدها)، من طريق يبدو أنها مستقلة، حيث قال الواقدي: حدثني أبو إسماعيل بن عبد الله بن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، فذكر قصة أخذ السقاة، وخبر من أفلت منهم ولحق بقريش، وكيف تلقت قريش الخبر، ثم قال: [وأخذ تلك الليلة يسار غلام بني العاص بن سعيد، وأسلم غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي، فقالوا: (سقاء قريش بعثونا نسقيهم الماء)، فكره القوم خبرهم، ورجوا أن يكونوا لأبي سفيان وأصحاب العير، فضربوهم، فلمَّا أذلقوهم بالضرب، قالوا: (نحن لأبي سفيان، ونحن في العير، وهذه العير بهذا القوز)، فيمسكون عنهم، فسلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من صلاته، ثم قال: «إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم!»، فقال أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يخبروننا، يا رسول الله، أن قريشاً قد جاءت!)، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «صدقوكم»، ..، إلخ]، وهو جوهر قصة ابن إسحاق في سيرته، فلعل القصة تنثبت بالطريقين.
وقد حمل بعضهم إنكار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على البيان لحقيقة عدم جدوى الضرب والتعذيب في بعض الأحيان مع المتهمين، لا على النهي عن ذلك الفعل. وحتى لو سلمنا جدلاً بصحة ذلك الحمل، وهو ادعاء باطل، فلا حجة في القصة لمن ادعى جواز الإكراه والضرب والتعذيب لأمرين:
الأول: أن ذلك لم يكن في دار الإسلام، بل هو من أحكام الحرب ومعاملة الكفار المقاتلين الحربيين؛
والثاني: أن المتهمين كان عبيداً مملوكين لقريش انتقلت ملكيتهم بالأسر للمسلمين، وكان العرب يعاملون الرقيق معاملة الدابة، فيحق للسيد قتل عبده وضربه وتعذيبه و خصيه إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة. فلما جاء الإسلام أبطل تلك الأحكام تدريجياً مبتدئاً بالندب إلى إحسان معاملة الأسرى والعبيد في العهد المكي ثم أتبع ذلك بأحكام تشريعية متتالية في العهد المدني، توجها بوصية النبي صل الله عليه وعلى آله وسلم على فراش الموت: «.... الصلاة، الصلاة، وما ملكت آيمانكم»، فلم يبق من جواز ضرب المملوكين، والله أعلم، إلا ما بقي من جواز ضرب الولد تأديباً، على أن لا يتجاوز هذا حدود التأديب المشروعة، وليس هذا بحثنا ها هنا، وفي الملحق المعنون: (تحريم التعذيب والإكراه) زيادة أدلة على ذلك.
الشبهة الثالثة: ومن شبههم كذلك ما جاء في حديث الإفك أن علياً رضي الله عنه ضرب الجارية أمام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتقريرها حول الموضوع. على أن ذكر الضرب إنما جاء في سيرة ابن هشام بدون إسناد، وما جاء هكذا لا يحل الاستشهاد به في أمور الحلال والحرام، أما الصحيح المسند فهو ما أخرجه البخاري أن علياً قال للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إسأل الجارية، فسألها رسول الله بنفسه، ولم يذكر أن علياً ضرب الجارية، ونص الرواية هو: «..... وأما علي بن أبي طالب فقال: يارسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، و إن تسأل الجارية تصدقك، فدعى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بريرة، فقال: أي بريرة ....» الحديث. وفي رواية أخرى للبخاري: [...... ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيتي، فسأل عن خادمتي، فقالت: لا والله ما علمت عيباً، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها، وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله ....]، ولم يذكر البخاري أن علياً أو غيره ضربها، فظهر بذلك أن ما جاء في السيرة النبوية إنما هي رواية مكذوبة.
وجتى لو سلمنا بالباطل جدلاً، فهذا لا يصلح كذلك للإستدلال لأن الجارية لم تكن متهمة أصلاً، فلا دليل فيه على جواز ضرب المتهم، وعائشة كانت هي المتهمة، ولم تضرب، كما أن الجارية لم تضرب بوصفها شاهدة فقد سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها ولم يضربها، مع أن أختها حمنة بنت جحش كانت تتكلم عن عائشة، فكانت زينب وكذلك اختها حمنة مظنة المعرفة، ومع ذلك فقد سئِلت ولم تضرب، ولم تسأل حمنة بنت جحش أصلاً حسب علمي، وإنما ضربت حد القذف بعد ذلك. كما أن الجارية كانت مملوكة للنبي صلى الله عليه وسلم وللسيد أن يضرب غلامه أو فتاته تأديباً، كما يفعل الوالد بولده والوالدة بولدها للتأديب، على أن لا يتجاوز هذا حدود التأديب المشروعة، وليس هذا بحثنا ها هنا كما أسلفنا.
وممن ذهب إلى صحة إقرار المكره بعض متأخري الحنفية، قال السرخسي في «المبسوط»: [وبعض المتأخرين من مشايخنا، رحمهم الله تعالى، أفتوا بصحة الإقرار بالسرقة مع الإكراه، لأن الظاهر أن السراق لا يقرون ــ في زماننا ــ طائعين].
وعن عصام بن يوسف من أصحاب صاحبي أبي حنيفة رحمهم الله أنه سئل عن سارق ينكر، فقال: عليه اليمين! فقال الأمير: سارق ويمين! هاتوا بالسوط فما ضربوه عشرة حتى أقر، فأتى بالسرقة. فقال (أي عصام): سبحان الله ما رأيت جوراً أشبه بالعدل من هذا. وفي إكراه البزازية من المشايخ من أفتى بصحة إقراره بها مكرهاً وسئل الحسن بن زياد: أيحل ضرب السارق حتى يقر؟ قال: «مالم يقطع اللحم ولا يتبين العظم».
وقال ابن عابدين أيضاً: «....، إن ضرب المتهم بسرقة من السياسة، وبه صرح الزيلعي، ... وللقاضي فعل السياسة، ولا يختص بالإمام».
وما ذكره متأخروا الحنفية لا دليل لهم عليه، ويكفي أن يصفة حنفي من المتقدمين كعصام بالجور، وكل ما ذكروه من تبرير لا يكفي لدفع أو اضعاف أدلة الجمهور على عدم جواز انتزاع الإقرار بالقوة، وحقيقة هذا القول أن الشريعة ناقصة وتحتاج إلى إكمال، وأن العقل أو الهوى أو مصالح السلاطين حاكمة لها السيادة، وهذه المقولات في حقيقتها مقولات كفر تناقض الإسلام، لأن الشرع كامل، والسيادة والحاكمية للشرع وليست للإنسان، أو العقل، أو المصلحة الخيالية المزعومة.
ويمكن حمله، إذا أحسنا الظن وبحثنا عن المعاذير، ولم نصنف هؤلاد المتأخرين من مشايخ الحنفية في عداد فقهاء السلاطين الخونة، يمكن حمله على ما إذا تظافرت القرائن على قيام السارق بالسرقة، وإخفاء للمال المسروق مع عدم توفر الشهادة بشروطها الشرعية، فيلجأ القاضي إلى هذا لإظهار المال المسروق، ومع ذلك فإنهم لا يستطيعون أن يجدوا دليلاً لما ذهبوا إليه.
وهم قد وافقوا الجمهور في بطلان إقرار المكره في غير السرقة، وفي السرقة لا يعتد بإقراره إلا في مجال تضمينه المال المسروق، أما القطع، فإنه لا يقطع لشبهة الإكراه، فتحصلوا على التناقض من أقرب طريق، فصارت الشريعة بسبب فهمهم السقيم متناقضة، وليست من عند الله، حاشا لله.
وأما ابن القيم فهو وإن كان قد صرح بجواز ضرب المعروف بالفجور المتهم بالسرقة ليعترف ويدل على المال المسروق تبعاً لزلة شيخه الإمام ابن تيمية الشنيعة، عفا الله عنهما، فإنه لا يرى أن إقراره هو الموجب لإقامة الحد عليه، بل وجود المال المسروق عنده هو العلة في قطعه، فقال: [ ..... إذا عوقب المتهم (أي عذب) على أن يقر بالمال المسروق فأقر به وظهر عنده قطعت يده، وليس هذا إقامة للحد بالإقرار الذي أكره عليه، ولكن بوجود المال المسروق معه الذي توصل إليه بالإقرار]،
نعم: هذا قول سالم من تناقض متأخري الأحناف، إلا أنه باطل لا دليل عليه، بل هو من زلات العلماء، أعاذنا الله من شرها، ووجود المال المسروق عند إنسان ليس دليلاً قاطعاً تقوم به الحجة على أنه سارق مستحق لقطع يده، لاحتمال أن غيره وضعه في بيته نكاية به، وقد حصل هذا ويحصل في كل الأزمنة وعند كل الأمم، وغاية ذلك هو إرجاع المال المسروق إلى صاحبه، أما قطع اليد به فلا.
وأما ابن حزم فقد وفقه الله للاقتراب من الحق في هذه المسألة فقال: [ ... أما إن لم يكن إلا إقراره (أي المكره) فقط، فليس بشيء: لأن أخذه بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع، وقد صح تحريم بشرته ودمه بيقين: فلا يحل شيء من ذلك إلا بنص أو اجماع، فإن استضاف إلى الإقرار أمر يتحقق به يقيناً صحة ما أقر به ولا شك أنه صاحب ذلك، فالواجب إقامة الحد عليه. وله القود مع ذلك على ما ضربه، السلطان كان أوغيره، لأنه ضربه ظالما له دون أن يجب عليه ضرب، وهو عدوان، وقد قال الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه......} الآية].
و من إحسان الظن بعلماء المسلمين، لا يجوز أن يظن أن ابن القيم يريد غير ما أراده ابن حزم من الحصول على اليقين من طريق آخر ليكون بذلك، وليس بإقرار أكره عليه. فإن الجمهور قد أبطلوا أقرار المكره حتى مع قيام بعض القرائن الظنية المؤيدة لصحة إقراره كالعثور على المال المسروق في بيت المتهم، لاحتمال أن غيره وضعه في بيته نكاية به.
قلنا أن الإمام علي بن حزم قد وفقه الله للاقتراب من الحق في هذه المسألة، ولكننا لم نقل بأنه قد أصاب، وذلك لأن ما قاله ابن حزم حالة خيالية، لا توجد في العالم قط، لأن كل ما يمكن أن يتصور منضافاً إلى إقرار المتهم، مثل وجود آلة الجريمة ملطخة بدماء المقتول في بيت المتهم أو مزرعته أو مخبأ أقر به تحت التعذيب، أو حتى وجود أجزاء من جثة القتيل عند المتهم، أو آثار من دمه أو عصارات بدنه على ملابس المتهم، أو أشرطة «فيديو» تصور الجريمة، أو غير ذلك، أو ما هو أظهر في تثبيت التهمة عليه من ذلك، كل ذلك لا يحدث يقيناً، ولا تقوم به حجة، بل المحتمل أن سلطات التحقيق، من شرطة وغيرها، هي التي لفقته، لأنها بمجرد إقدامها، خلافاً للحرمة القطعية التي نزعم أننا نسلم بها، على تعذيب المتهم الأعزل، والدار دار سلم والحالة ليست حالة حرب بضروراتها المكروهة المؤسفة، أصبح كل من شارك في ذلك أو أعان فيه أو تستر عليه فاسقاً مجرماً ساقط العدالة، مجروح الشهادة، فضلاً عن غلبة الظن في انخلاعه عن الإنسانية السوية، واتصافه بالوحشية والدموية، فكيف يوثق بمثل هذا الصنف المريض، وكيف تحترم نتيجة تحقيقاته؟!
نعم: قد أصاب ابن حزم في إيجابه العقوبة على هذا والقود منه، ولكن مشكلة الخلل في التحقيق لم تحل بهذا، ومحال أن تحل بمجرد إيجاب القود، بل لا بد من إبطال تصرفات سلطة التحقيق، وصرف النظر عن نتائجها، ثم تأتي عقوبتها والقود منها بعد ذلك.
والمذهب الراجح في هذا هو بلا شك مذهب الجمهور في منع الإكراه، وفي إبطال آثاره، فذلك هو الذي يتفق مع ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب إقامة الحق والعدل، وإقرار المكره ليس حقاً، ومعاقبته بمقتضاه ليس عدلاً. والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، كما جاء بأصح الأسانيد عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم من الصحابة، وهم وايم الله الأئمة المهديون الذي يستوحش من مخالفتهم، وهم استفادوه ولا شك من مدرسة النبوة.
نعم: لا بد من إبطال تصرفات سلطة التحقيق، وصرف النظر عن نتائجها، لأن الله لا يمحو السيئة بالسيئة، وإنما يمحو السيئة بالحسنة، ومحال أن تنوب المعصية والإثم عن الطاعة والبر، ومحال أن ينبني الحق والعدل على الباطل والظلم، والذي يدرأ عن المجتمع الخطر حقيقة هو التزام الحق وإقامة العدل، وسد الذرائع إلى الباطل والظلم.
واعتبار الإكراه وسيلة لإحقاق الحق مخالفة صريحة للنصوص الشرعية، وذريعة إلى شرور لا تحصى منها:
(1) وهو من أفظعها تمكين سلاطين الجور من تعذيب الناس ومصادرة حقوقهم بدعوى حماية المجتمع وحفظ الأمن العام، وهذا هو الواقع المحسوس، وليس وسوسة ووهماً، حيث استغل أئمة الجور ورووس الضلالة هذا لتثبيت عروشهم، فلا الجرائم قلت، ولا الأموال والدماء حفظت. وإن حفظت من عدوان صغار اللصوص والمجرمين، لم تحفظ من عدوان أكابر المجرمين من السلاطين ومحاسيب السلاطين.
(2) انحطاط الأداء في أجهزة الشرطة والتحقيق لاعتمادها على الضرب والتعذيب، بدلاً من أسليب التحقيق الراقية (وسيأتي نموذج نبوي لهذه الأساليب الراقية بعد قليل)، فلم تعد تلك الأجهزة تجتذب إلا الأغبياء والفاشلين في دراساتهم، أو مرضى النفوس المصابين بمرض «السادية»، الذين يتلذذون بالتعذيب، عياذاً بالله. أما النوعيات الجيدة من الناس التي تمس لها الحاجة في حفظ الأمن، وتقديم الخدمات الحقيقية للبلاد والعباد، فهي تتباعد عن هذه الوظائف التي أصبحت منبوذة محتقرة. ومن لم يصدق هذا فلينظر إلى أجهزة الشرطة والمباحث عند آل سعود، «المطبقين للشريعة بحذافيرها»، وليقارنها بمثيلاتها في أمريكا أو بريطانيا «الكفرة الملاعين». وأذكر أن أحد العاملين في الشرطة «السعودية»، وهو من أقاربي وقد تقاعد بمرتبة لواء، كان لا يسمي كلية الشرطة، التي تخرج هو منها، إلا (كلية الظرطة!)، مما ينبئك عن مدى احترامه لنفسه وزملائه ومهنته!
(3) الإساءة إلى سمعة الإسلام والمسلمين إساءة بالغة بهذه التطبيقات المنكرة الساقطة، وفي عصرنا هذا بالذات أساء آل سعود وغيرهم، ممن يدعون تطبيق «الشريعة الإسلامية بحذافيرها» إلى الإسلام إساءة بالغة، وأصبح الإسلام والمسلمون بسببهم أضحوكة العالمين.
إن النفس لتنكسر، والقلب ليدمي من كل هذا الذي نراه ونسمعه من جبروت الطواغيت وظلمهم، واستضعاف الناس ومصادرة حقوقهم، واستمرار مدافعة فقهاء السلاطين الخونة عن هؤلاء الجبابرة الظلمة.
والقوم، أعني متأخرة الأحناف يزعمون أنهم أصحاب رأي ونظر وقياس، والإمامان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، سامحهما الله، مشهوران بإطالة النظر في «مقاصد الشريعة»، ويقولان بـ«سد الذرائع»، و«مآلات الأعمال»، وكل هؤلاء معروفون بنقدهم للظاهرية وبعض الشافعية بدعوى أنهم «حرفيون» جامدون، فهلا نظر هؤلاء العقلانيون المرنون، وتلاميذهم في العصر الحالي، في الفظائع و«المآلات» الشنيعة للترخص في الإكراه واستعمال التعذيب، فقاموا كما يزعمون بـ«سد الذريعة»، وهم أهل نظر وتدبر كما يدعون؟! إن الحقيقة، التي لا ريب فيها، أنهم لا النظر أحسنوا، ولا القياس أجادوا، ولا النصوص المعصومة اتبعوا!
أما نحن فنحمد الله على «حرفية» الالتزام بنصوص الكتاب والسنة، وضربنا بـ«مآلات الأعمال»، و«سد الذرائع»، وما شابهها من الدجل والهراء، عرض الحائط. ونصوص الكتاب والسنة، هي الوحي المعصوم، وهي سفينة نوح: من ركبها نجى، ومن تخلَّف عنها هلك: اللهم نجنا بمفازتنا، وألحقنا بنبينا، وأوردنا حوضه، غير خزايا، ولا معذبين، ولا مفتونين.
ولكن هل يجوز الإكراه عند الضرورة الملجئة؟! لعل ما قلناه أثناء كلامنا عن حرمة «التجسس» ينطبق ها هنا وهو أنه ليس من الضرورة «الكشف عن الجريمة»، وما يسمونه بـ«حماية المجتمع من أن ينجو فيه المجرمون من العقاب»، وما شابه، بخلاف منع وقوع جريمة مستقبلية، أو صيانة حرمة لا بد من صيانتها، و لا يمكن صونها إلا بذلك، ومن أمثلة هذا:
(1) وضع اليد على المواد الخطرة كالسموم والمتفجرات التي تقوم البينة أو القرائن القوية على أنها مخبأة لارتكاب جرائم مستقبلية،
(2) استنقاذ إنسان من يد فرد أو عصابة من المختطفين، أي ما يسمَّى باستنقاذ الرهائن،
والضرورة تقدر بقدرها، وفي أضيق الحدود، وبالنية الصادقة المناسبة للحال: أي أن تكون النية هي: منع وقوع جريمة جديدة، أو استنقاذ رهينة، أو صيانة حرمة لا يمكن حمايتها بغير ذلك، وليست مجرد إدانة أحد أو القبض على أحد. وفيما يتعلق بالإكراه فهناك أمور أخرى تجب مراعاتها، حتى في حالة الضرورة، ومنها:
(1) أن يقتصر على ما يؤدي إلى المقصود من أنواع الإكراه: العقاقير المبطلة للإرادة، فإن لم تف بالغرض، فالتهديد بإيقاع الضرب أو الألم أو التعذيب، ثم الإيلام بالفعل والتصاعد فيه تدريجياً. فلا تجوز مجاوزة مرتبه حتى تستنفد المحاولة في المرتبة التي هي دونها.
(2) لا يجوز إلحاق الأذى بالأقارب أو الأحبة، أو التهديد بذلك، ولا بحال من الأحوال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
(3) اختيار نوع الإكراه، ووسائله، ومواده، وآلاته بدقة متناهية: فلا يجوز أن يؤدي الإكراه إلى ضرر دائمي، أو تلف أعضاء، أو إلى الموت لأن المقصود هو ليس إتلاف الأعضاء أو القتل، وإنما هو انتزاع معلومات دعت إلى انتزاعها ضرورة ملجئة، ولا يمكن الحصول عليها من طريق ثانية. ومن البديهي أن استخدام النار، والكي، ونحوه لا يجوز لما ذكرنا، وللأدلة الخاصة بالمنع من ذلك، إلا في العقوبة قصاصاً.
ونسارع فنؤكد أن هذا كله إنما هو في دار الإسلام، أما دار الحرب وحالة الحرب فلها أحكامها الخاصة، وحالة الحرب حالة استثناء وضرورة بطبيعتها، وليس هذا محلها.
التحايل للوصول إلى الإقرار
أما ما سماه ابن حزم بـ(البعثة) في المتهم أو التحايل للحصول منه على إقرار فقد حسنه ابن حزم، واحتج لحسنه، بل لوجوبه، بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهودي الذي رض رأس الجارية، حيث لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به يحاوره ويداوره حتى اعترف فأقاد منه.
* وقد أخرج الإمام الترمذي القصة بطولها عن أنس قال: [خرجت جارية عليها أوضاح فأخذها يهودي فرضخ رأسها بحجر وأخذ ما عليها من الحلي قال فأُدْرِكت وبها رمق، فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من قتلك، أفلان؟!»، قالت برأسها: لا، قال: «ففلان؟!»، حتى سمي اليهودي، فقالت برأسها: أي نعم. قال: فأخذ فاعترف، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين] قال أبو عيسى: (هذا حديث حسن صحيح. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحق، وقال بعض أهل العلم لا قود إلا بالسيف)، وهو حديث غاية في الصحة، وأخرج مثله بأسانيد غاية في الصحة الأئمة: أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، والدارمي. وقال الإمام البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه بمثله مختصراً، إلا أنه قال: [فأتي به النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يزل به، حتى أقر به]، وهذا إسناد صحيح كالشمس.
كما احتج الإمام أبو محمد علي بن حزم لذلك بفعل بعض الصحابة رضوان الله الله عليهم ــ وقال: [فهذا حسن، لأنه لا إكراه فيه، ولا ضرب]، ونقل عن مالك كراهته لذلك ورد عليه بحق.
هذا هو الأسلوب الراقي: مباغتة المتهم بالإسئلة، من عدة محققين في آن واحد عند اللزوم، وهو ما يسمّى بالاستجواب المتقاطع (cross examination)، حتى ينكشف تناقضه، وتنهار مقاومته، فيدلي بالحقيقة بإرادته، ليأسه من النجاة بالكذب.
وعلى كل حال فالحديث السابق فوق كونه حجة صحيحة لجواز «البَعْثة»، أي التحايل على المتهم لأخد اعترافه بأساليب التحقيق الراقية، ممن غير ضرب، ولا تعذيب، ولا إكراه، هو حجة قاطعة على حرمة التعذيب والضرب والإكراه، وإلا فمتى تجوز هذه إن لم تكن جائزة في هذه الحالة؟! جريمة قتل قبيحة دنييئة بقصد السرقة، ومتهم يكاد يكون مداناً بشهادة المقتول قبل وفاته، وهو على فراش الموت في النزع الأخير، وهو موضع يكاد يستحيل تصور كذب الإنسان فيه، ومع هذا كله، وبالرغم من هذا كله، فلا ضرب، ولا تعذيب، ولا إكراه.
وايم الله: من ترخص في تجويز التعذيب بعد ما ذكرنا من أدلة سابقة، وبعد سماع هذه، وتيقنه من صحة الإسناد، وتصحيح الأئمة لهذا الحديث، وتلقي الأمة له بالقبول، وعدم وجود المعارض، بل ووجود الشواهد المتضافرة المتواترة على معناه، من ترخص في ذلك بعد هذا كله: فعقله ذاهب، أو إسلامه زائف.
الحق الرابع للمتهم: الرجوع عن الإقرار: الحقوق من حيث صحة رجوع المقر عن إقراره بها، وعدم صحة ذلك، نوعان:
النوع الأول: الحقوق التي يصح الرجوع عن الإقرار بها، وهي الحدود، فهي حقوق خالصة لله تعالى، فيصح الرجوع عن الإقرار بها. والأصل في صحة الرجوع عن الإقرار بالحدود حديث ماعز حيث لقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجوع عن الإقرار بقوله: «لعلك قبلت، أوغمزت، أو نظرت»، فلو لم يصح الرجوع لما لقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجوع عن الحدود يكون صريحاً كقوله: «رجعت عن إقراري» ونحوه، ودلالة كالهروب من إقامة الحد. ويصح الرجوع قبل الحكم وبعده، وقبل التنفيذ، وفي أثنائه، وبعده.
وذلك لأن الحدود حقوق خالصة لله تعالى يحاسب عليها في الآخرة، ولكن تسقط المؤاخذة الأخروية إذا عوقب المذنب في الدنيا، كما ثبت في الأحاديث المتواترة. فإذا أقر إنسان على نفسه بشيء منها فذلك إنما يكون غالباً لرغبته في التطهر من الذنب، والسلامة من المؤاخذة الأخروية. فالقرار بالتوبة والتطهر قراره، والحق في ذلك حقه، فله الرجوع عنه في جميع الأحوال.
كما أن الحدود حقوق خالصة لله تعالى تدرأ بالشبهات، فإذا رجع المقر عن إقراره بها، تحول رجوعه إلى شبهة وهي احتمال كذبه في إقراره، وصدقه في رجوعه، والحدود تدرأ بالشبهات، فإذا أقر شخص بالزنا، ثم رجع عن إقراره صح رجوعه، وسقط حد الزنا عنه عند الجمهور، وخالف في ذلك ابن ابي ليلى وعثمان البتي، وأبي ثور، وأهل الظاهر، وحديث ماعز يحسم النزاع نهائياً لصالح الجمهور. وفصَّل مالك، فقال: إن كان الرجوع إلى شبهة: قبل رجوعه، وإلا فلا، وهي الرواية غير المشهورة. ولم يظهر لنا السند الشرعي لهذا التفريق، فهو إذن ترجيح بلا مرجح، ودعوى بلا دليل، وما لا برهان عليه باطل.
والخلاف وقع في حد السرقة وحد الشرب. أما حد القذف فلا يصح الرجوع فيه عن الإقرار. أما قطع الطريق، وما شابهها من جرائم «المحاربة» أو «الحرابة»، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل فيه الرجوع، لأنه حق يجب لصيانة حق الآدمي كحد القذف. والثاني: يقبل. وصححه بعضهم تنزيلاً له لمنزلة حد الزنا، ولأن العقوبة في جرائم «الحرابة» كلها تسقط بتوبة المجرم واستسلامه قبل القدرة عليه!
والصحيح في ذلك كله أن الإقرار الذي ثبت به حق الآدمي، أي ما يسمّى في هذه الأيام بالحق المدني، كالمال المسروق ونحوه، لا يؤدي الرجوع عنه إلى سقوط حق الآدمي، وإن سقطت العقوبة الدنيوية أي المؤاخذة بحق الله تعالى في الدنيا.
النوع الثاني: الحقوق التي لا يصح الرجوع عن الإقرار الصحيح فيها مطلقاً مالية كانت أو غيرها، وهي حقوق الناس، وذلك لأن المقر لا يملك التصرف في ملك الغير، فأقراره الصحيح قد أثبت حقاً للغير بيقين، ورجوعه إدعاء بإزالة ذلك الحق، بالدعوى المجردة، من غير بينة، فلا يقبل، إلا ببينة معتبرة تظهر أن إقراره السابق بني على وهم أو خطأ أو كذب. والرجوع عن هذه الحقوق كذلك يكون صريحاً ودلالة.
الحق الخامس: التعويض عن الخطأ القضائي: يذهب بعض الباحثين إلى أن الشريعة الإسلامية ترى تعويض المتهم الذي يحبس احتياطياً، ثم تثبت براءته مستدلين لذلك: بذهاب أمير المؤمنين الإمام علي، رضوان الله وسلامه عليه، إلى الحكم «بالغرة» في قضية «المجهضة»، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن امرأة مغيبة «أي: زوجها غائب» كان يُدخَل عليها، فأنكر ذلك، وأرسل إليها «ليسأله عن صفة من يدخل إليها من الرجال وصلتهم بها»، فقيل لها: أجيبي عمر، فقالت: ياويلها ما لها ولعمر؟! قال: فبينما هي في الطريق فزعت، فضربها الطلق، فدخلت داراً فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم: أنه ليس عليك شيء، إنما أنت وال ومؤدب، وقال: وصمت علي، فأقبل عليه فقال: ما تقول؟ قال: (أي: علي): إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك! أرى أن ديته عليك فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها بسببك. قال: فأمر علياً أن يقسم عقله على قريش.
وقد ذهب الحنابلة إلى وجوب ضمان الجنين على السلطان بهذا، وأنها لو ماتت بنفس السبب لوجبت عليه ديتها، ووافقهم الشافعية في وجوب ضمان الجنين، لأنه لا ذنب له، كما لو حُدّت الحامل فتلف ولدها، فالإمام يضمنه.
ولعل الإمام علياً ــ رضي الله عنه ــ حين ذهب إلى التضمين رأى أن الأمر لم يكن يقتضي استدعاءها بتلك الطريقة التي أدت إلى إجهاضها، وأنه كان يمكن أن تنصح وهي في بيتها وبشكل لا يؤدي إلى هذه الدرجة من الفزع، وأنه أراد أن يبين بأن على الحاكم أن يستدعي عند الحاجة بأرفق الطرق بالمتهم لا بأعنفها. وإلا فإن استدعاء المتهم إذا كان بحق وبطريق معتاد مع قيام ما يقتضي ذلك حق من حقوق الجماعة كما أسلفنا، و ممارسة ولي الأمر له بشروطه لا تعرضه للضمان إلا بالتعسف أو التعدي باستعمال هذا الحق.
ولكن قواعد الشرع تحض على الإحسان إلى أولئك الذين تخطىء بحقهم أجهزة الدولة خلال عملها المخلص المشروع لحماية المجتمع وكل من يعيش فيه، سواء بنوع من الاعتذار أو التعويض المادي أو المعنوي الذي يساعد على إزالة آثار الاتهام عن نفس المتهم. بل لعل قواعد الشرع توجبه في بعض الأحيان.
أما الإجراءات التعسفية أو تلك التي يتجاوز فيها الوالي أو أعوانه حدود ما خولهم الله تعالى إياه، فنصوص الكتاب والسنة واجماع الأمة منعقد على أن الأئمة فمن دونهم مسئولون عن العمد من ذلك وعن الخطأ، وأنهم يقاد منهم، ويقتص منهم، كما يقتص من أي واحد من آحاد الرعية، كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيد من نفسه؟!
فليس للدولة في الإسلام أي قداسة، وليس لأحد من رجالاتها أو موظفيها أي حصانة، والحق الإلاهي للملوك لا وجود له في الإسلام.
واختلف الفقهاء في ضمان خطأ الإمام هل يقع في ماله أو مال عاقلته؟ أو هو في بيت المال؟ إلى كل من المذهبين ذهب فريق.
والصحيح أنه يقع في بيت مال المسلمين بالنسبة لكل التصرفات التي تصدر منه، بصفته السلطانية، موجبة للضمان، أما تصرفاته الخاصة بشخصه بصفته الفردية فضمانها في ماله الخاص ومال عاقلته كأي فرد من أفراد الرعية.
وفي الختام: لم نحاول فيما تقدم أن نستقرئ كل حقوق «المتهم» في الإسلام، بل أردنا الاقتصار على التنويه بأهمها فقط. وإلا فإن جميع التشريعات الإجرائية والقضائية وآداب القضاء، والإجراءات التنفيذية للعقاب، واختصاصات المحاكم، وشروط القضاة وولايتهم، وآداب الدعاوى والمرافعات، كل ذلك فيه ما يعتبر ضمانات للمتهم تحميه من الإجراءات التعسفية، وتصون له كرامته وإنسانيته وتساعده بعد التعرض للانحراف على العودة إلى سواء السبيل.
لقد احتفظ الواقع التاريخي الإسلامي منذ عصر أبي القاسم محمد، خاتم أنبياء الله، وأفضل رسل الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، إلى يومنا هذا بنماذج رائعة للعدل الذي حققه الإسلام في أروع صوره، يطول بنا البحث لو أردنا التعرض لها، وليس العثور عليها بعسير على أحد، فكتب التاريخ والسير وتراجم الرجال والطبقات طافحة بتلك الأمثلة الرائعة. والمطلب اليوم هو تحويل هذه الأمثلة الرائعة إلى ممارسة يومية، وواقع مستقر، وعرف جاري، وليس مجرد نوادر وفلتات يتعجب منها في المجالس!
ولعل نلخص ما سبق في المبادىء التالية:
(1) كل تشريع أو تنظيم أو تقنين مهما كانت صفته، لا يستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل لا يجوز العمل به، ولا السير بمقتضاه. وهو بذاته منكر عظيم، وانحراف جسيم، يجب على كل قادر إبطاله وتغييره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فلا بد من إنكاره بالقلب، وعدم التسليم به أو الاستسلام له، والامتناع عن تطبيقه، أي التعامل معه بـ«العصيان السلمي»، في أقل تقدير، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، بل هو الكفر والردة.
(2) كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وبشرته. والمسلمون أمة واحدة من دون الناس. وحملة التابعية من غير المسلمين «أمة مع المسلمين»، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، إلا ما استثناه الشرع بنص قاطع.
(3) كل عقوبة لم ترد بها الشريعة الإسلامية في حد أو تعزير باطلة، ويعد مرتكبها ظالماً، يجب أن يقتص منه، مهما كانت درجته، فالتعذيب، وانتزاع الأقوال بالإكراه، كل ذلك عدوان وظلم، يجب رفعه، وإبطال جميع آثاره، ومعاقبة فاعليه، وإسقاط عدالتهم، وعدم تمكينهم من الوظائف العامة، حتى تتحقق توبتهم وتعود عدالتهم.
(4) الحقوق أنواع ثلاثة:
(أ) حقوق الله تعالى، وهي نوعان: ما تجب فيه العقوبة لترك مفروض، وما تجب فيه بارتكاب محظور.
(ب) حقوق الآدميين: كالديون ونحوها، فتؤخذ عند الإمتناع مع القدرة جبراً، ويحبس بها.
(ج) حقوق مشتركة: لا تتمحض حقاً لله، ولا تتمحض حقاً للعباد: كالسرقة، فحق الآدمي فيها: رد المال المسروق إلا إذا عفا. وحق الله قطع يد السارق إذا توفرت شروط القطع.
وليس وراء هذه الحقوق الثلاثة شيء.