حقوق السجين
لقد عنى الإسلام عناية بالغة بالسجين ورعايته والاهتمام بشأنه، فقد أودع رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، سجيناً عند رجل، وأمره أن يرعاه ويكرمه، وكان يكثر المرور على الرجل يسأله عن السجين. وكان علي بن أبي طالب، سلام الله عليه، يزور السجن فجأة ليتفقد أحوال السجناء، ويطلع على شكاواهم. وعلى الدولة أن توفر للسجين العذاء والكساء والعلاج، وتصون له سائر حقوقه.
والفقهاء يعتبرون أن أول واجبات القاضي الجديد إذا تقلد عمله التفتيش على السجناء ليطلق كل من حبس ظلماً، فعليه أن يسأل عن أسباب حبسهم، ويجمع بينهم وبين خصومهم ليتأكد من أن الخصومة لا تزال قائمة، وأنه محكوم عليه بالحق.
وإذا حبس إنسان، فعلى القاضي الذي أمر بحبسه أن يكتب اسمه، واسم أبيه وجده، والسبب الذي من اجله حبس، وتاريخ ابتداء الحبس وانتهائه. وإذا عزل القاضي وخلفه غيره فعلى القاضي الجديد أن يبعث إلى المعزول يسأله عن المحبوسين وأسباب حبسهم.
واختلف الفقهاء فيمن له ان يصدر قرارات الحبس، فذهب الماوردي إلى أن سلطة المحقق تختلف باختلاف صفته، فإن كان حاكماً أو قاضياً، واتهم لديه شخص بسرقة أو زنى فليس لهذه التهمة عنده من أثر، فلا يجوز له أن يحبسه حتى يكشف عن حاله، فيتحقق من براءته أو إدانته، أما إذا كان الناظر في التهمة الأمير أو والي الجرائم فله أن يأمر بالحبس إذا رأى التهمة قوية أو غليظة، وعليه أن يطلق المتهم إذا اتضح أنها ضعيفة أو هزيلة، وقد تبع الماوردي على هذا كثير من الفقهاء، وهذه تفرقة عجيبة لا يدعمها النص الشرعي، ولا واقع الجرائم، فلعلها واقع تاريخي فحسب. ولو أن الماوردي فرق بين الجرائم التي فيها اعتداء على حق الغير، كالسرقة والقتل، والذنوب الذاتية كالزنا وشرب الخمر، لكان لكلامه وجه، أما هكذا فلا!
ولما كان البحث هنا في «الحبس الاحتياطي»، أي السجن في تهمة، فمن الواضح أنه، في حالة تبني مشروعية ذلك من الدولة، سيكون من صلاحيات القاضي الذي يقوم بالتحقيق، وهو قاضي التحقيق الذي تقتاد إليه الشرطة المتهم، بغض النظر عن صلاحياته الأخرى.
واختلفوا في مدة حبسه، فقيل: شهر، وقيل: ليس بمقدر بل هو موقوف على رأي الإمام واجتهاده على ألا تكون المدة طويلة. والمروي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حبس في تهمة «يوماً وليلة» فقط، وفي رواية:«ساعة من نهار»، وحبس رجلاً مدة يسيرة ثم أطلقه بعد أن ظهرت براءته، هذا إذا صحت الروايات، فالقول الراجح أن الحبس الاحتياطي، أي الحبس في تهمة، يجب أن يكون لأقصر مدة ممكنة، والواجب أن يحددها النظام، أو القانون المنظم، للحبس الاحتياطي، وأن لا تمدد إلا بعد إعادة النظر القضائي، أي بعد الترافع مجددا في الموضوع والنظر في ما قد جد من القرائن والأدلة.
* فصل: تفتيش المتهم ومسكنه ومراقبة أحاديثه
إن الله سبحانه وتعالى قد صان الإنسان وكرمه، وحرم أن يمس جسمه أو بشرته أو عرضه، أو ينتهك مسكنه كما قال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه..».
وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسملوا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم...}، الآيات.
وقال جل شأنه: {ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا}.
وقال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة». وقال: «إن الأمير اذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم».
وقيل لابن مسعود: هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً، فقال: «إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه به». وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُدّث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: «إن هذا لا يحل لك: قد نهاك الله عن التجسس» فخرج عمر، وتركه.
وقال عبد الرحمن بن عوف: [حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط. فقال عمر: هذا بيت ربيعة ابن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فيما ترى؟ قلت:أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى: {لاتجسسوا}، وقد تجسسنا]، فانصرف عمر وتركهم. ولنا رسالة مستقلة عن التجسس يقيم البرهان القاطع على حرمته مطلقاً، إلا على العدو الحربي، فلا نطيل به ها هنا.
وحرمات الإنسان كلها واجبة الصيانة كما دل على ذلك ما مر حتى يظهر بالبينة ما يقتضي الانتقاص منها، ولا يكون ذلك إلا في الحدود الشرعية، ووفق النصوص الشرعية.
والحق أن النهي عن الظن السيء والتجسس في الكتاب والسنة عام، ولا مخصص له، والفجور السابق، أو الاتهام به لا يصلح أي منهما ليكون قرينة أو امارة تهدر بمقتضاها حرمة للشخص أو لمسكنه أو لشيء آخر له ما لم يعزز ذلك دليل أو قرينة أو امارة من واقع الحال ترجح جانب الاتهام.
ومما يؤيد هذا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد توقف عن التجسس على أبي محجن الثقفي وربيعة بني أمية، وكلاهما كان معروفاً بالميل إلى الشراب، وقد سبق جلد أبي محجن لشربه الخمر مراراً. كما توقف ابن مسعود عن ذلك فيما نسب إلى الوليد بن عقبة مع اشتهاره بالميل إلى الشراب. وامتنع النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عن عقوبة إمرأة ظهر منها الريبة والفجور فقال: «لو كنت راجماً في الإسلام بغير بينة لرجمتها»وهذا يعني أنه لم يرجمها لعدم وجود بينه، مع وجود شبهة قوية فيها، بل قد قال ابن عباس: (تلك امرأة كانت تعلن في الإسلام). بدليل ما ورد من حديث ابن عباس عن الذَين لاعن الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، حيث جاء ما نصه: «فقال رجل لان عباس في المجلس: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رجمت أحداً بغير بينة رجمت هذه»؟ فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء» أي كانت تعلن بالفاحشة، ولكنه لم يثبت ذلك عليها ببينة ولا اعتراف.
وهذا يعني أن شبهة الزنا القوية كانت موجودة على تلك المرأة، ومع ذلك لم يرجمها الرسول، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنه لم يثبت عليها، بل ولم يستدعها للتحقيق، ولم يرسل إليها محققاً، ولم يأمر بمراقبتها، أو التجسس عليها، ولم يوجه أحداً بمتابعتها إلتماساً للبينة، فقط قال: «لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها» و «لو» حرف امتناع لامتناع فامتنع الرجم لامتناع البينة، وهذا دليل على أن الحاكم لا يجوز له أن يوقع عقوبة على أحد من الرعية إلا بعد أن يرتكب ذنباً نص الشرع على أنه ذنب موجب لتلك العقوبة، وبعد أن يثبت ارتكابه هذا الذنب أمام قاض له صلاحية القضاء، وفي مجلس قضاء.
فالشريعة الإسلامية إذن تمنع تفتيش الشخص والمسكن والتصنت لأحاديث الشخص، ومراقبته، والاطلاع على رسائله، واستباحة حياته الخاصة بأي شكل من الأشكال منعاً باتاً مطلقاً، إلا إذا قامت دلائل أو قرائن تدل على علاقته بالجريمة، أما تقدير تلك الدلائل أو القرائن فمتروك للقضاء الشرعي حيث أنه السلطة المنفذة لحكم الشرع، الفاقهة لتعالميه وأحكامه.
كما أن على هذه السلطة أن تدرك أن هذه الحقوق ثابتة للإنسان بكتاب الله وسنة رسوله، وأن تقييدها أو الإنتقاص منها خروج عن الأصل الثابت بالكتاب والسنة حرام حرمة قطعية لا يباح إلا لضرورة ملجئة، تباح فيها المحظورات. لذلك فإنه لا يجوز لسلطة التحقيق أن تتجاوز ما تقتضيه الضرورة، وينبغي أن تراعي في كل ذلك الحدود والآداب الشرعية، فليس لرجل مثلاً أن يقوم بتفتيش امرأة، أو اقتحام البيوت على النساء، أو نحو ذلك كاتلاف أموال، ومصادرة حاجات لا صلة لها بالجريمة.
ونسارع إلى التنبيه أن «الكشف عن الجريمة»، وما يسمونه بـ«حماية المجتمع من أن ينجو فيه المجرمون من العقاب»، وما شابه، مما قد يعد ضرورة عند غير المسلمين، لا يعد ضرورة عند الدولة الإسلامية، لأنه من المحال أن ينجو أحد من العقوبة، في الآخرة قطعاً أو في الدنيا، إلا بتوبة بشروطها، فلا يجوز أن يعتبر الكشف عن جريمة وقعت وانتهى أمرها «ضرورة» تبيح المحظورات. وذلك بخلاف منع وقوع جريمة مستقبلية، أو صيانة حرمة لا بد من صيانتها، و لا يمكن صونها إلا بذلك، ومن أمثلة هذا:
(1) وضع اليد على المواد الخطرة كالسموم والمتفجرات التي تقوم البينة أو القرائن القوية على أنها مخبأة لارتكاب جرائم مستقبلية،
(2) استنقاذ إنسان من يد فرد أو عصابة من المختطفين، أي ما يسمَّى باستنقاذ الرهائن،
والضرورة تقدر بقدرها، وفي أضيق الحدود، وبالنية الصادقة المناسبة للحال: أي أن تكون النية هي: منع وقوع جريمة جديدة، أو استنقاذ رهينة، أو صيانة حرمة لا يمكن حمايتها بغير ذلك، وليست مجرد إدانة أحد أو القبض على أحد. وهذا الذي سلف كله إنما هو في دار الإسلام، أما دار الحرب وحالة الحرب فلها أحكامها الخاصة، وحالة الحرب حالة استثناء وضرورة بطبيعتها، وقد رخص الشرع فيها بالتجسس والكذب وخديعة العدو الحربي، كما هو مفصل في مواضعه من كتب الفقه والسير، وليس هذا محلها.
نعم: قال بعض الفقهاء والمفسرون بغير هذا، فمثلاً قال القرطبي: [ومحل التحذير والنهى إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو يشرب الخمر مثلاً: ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. قال: و دليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قول تعالى: {ولا تجسسوا}، وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء، ويريد أن يتجسس خبر ذلك، ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع من تلك التهمة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: إن كل ما لم تعرف له إمارة صحيحة وسبب ظاهر، كان حراماً واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح وأونست منه الأمانة في الظاهر ــ فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهر بين الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث...]. فللظن إذاً عند القرطبي حالتان:
الأولى: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة، فيجوز الحكم بها،
والثانية: أن يقع في النفس شيء من غير دلالة: فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك: فلا يجوز الحكم به، وهو المنهى عنه.
وهذا يدل عندهم على أنه لا يجوز تفتيش شخص تفتيشاً ذاتياً، ولا تفتيش مسكنه، ولا مراقبته، ولا تسجيل أحاديثه الخاصة تلفونية كانت أو غيرها، ولا هتك أي ستر من أستاره أو كشف أي سر من أسراره لمجرد الشك بأنه يكون قد ارتكب ما يقتضي العقاب، لأن الشك المجرد عن الدلائل والقرائن ظن سيء آثم صاحبه، لا يغني من الحق شيئاً، ولا يجوز أن يبنى على مثل هذا الشك شيء إلا إذا تعزز بالقرائن أو الإمارات الصحيحة أو الأدلة المعتبرة.
ويلاحظ أن المفسرين هنا والمتكلمين في أحكام القرآن سلكوا مسلك الكثير من الفقهاء في تجويز القبض والحبس الاحتياطي، ففرقوا بين من ظاهرهم يدل على التقوى والصلاح، وبين من تدل ظواهرهم على أنهم من أهل الفجور والمعصية، فاعتبروا النهى عن التجسس محمولاً على التجسس على أهل التقوى والصلاح، أما الآخرون: فجوزوا التجسس عليهم، وهذا تفريق عجيب لا نعلم له سنداً من الكتاب والسنة، بل إن نصوص الكتاب والسنة وهدي الخلفاء الراشدين وأعمال الصحابة على ضده وتثبت بطلانه كما سلف.
والحق هو ما قلناه أنه: لا يجوز التفتيش الذاتي، أو المراقبة، أو التجسس، أو التصنت وتسجيل الأحاديث الهاتفية وغيرها، أو اقتحام البيوت إلا لضرورة شرعية معتبرة، وأن تكون الضرورة ضرورة حقيقية ملجئة، كما أسلفنا.
* فصل: مسائلة المتهم في التهمة الموجهة إليه
للمحقق أن يسأل المتهم الأسئلة التي يرى أن الجواب عنها يساعده على كشف الحقيقة، وله أن يواجهه بالتهمة الموجهة إليه، ولكن ذلك لا يفرض على المتهم أن يجيب كما سيأتي. كما يتمتع المتهم بمجموعة من الحقوق يمكن تلخيصها بمايلي:
الحق الأول للمتهم: حق الدفاع: أي دفع المتهم الاتهام عن نفسه، إما بإثبات فساد دليل الاتهام، أو باقامة الدليل على نقيضه، فلا بد من تمكين المتهم من ممارسة هذا الحق تمكيناً تاماً، لأنه إذا لم يسمح له بممارسة هذا الحق تحول الاتهام الى إدانة، فالاتهام بطبيعته يحمل الشك، وقدر الشك فيه هو قدر الدفاع ومجاله، ومن اقتران الدفاع بالاتهام تبرز الحقيقة التي هي هدف التحقيق، ولذلك فإن الدفاع لا يعتبر من حقوق المتهم وحده إن شاء ممارسه، وإن شاء أهمله، بل هو حق للمجتمع، وواجب عليه في الوقت ذاته، أي أنه «فرض كفاية» على الأمة، وحق لها.
وإذا كان المتهم صاحب مصلحة في أنه لا يدان وهو برىء، فإن للمجتمع مصلحة ظاهرة لا تقل عن مصلحة المتهم نفسه في أن لا يدين المتهم وهو برىء، فيحصل الظلم، وتحصل به معصية الله وغضبه، ويفلت المجرم الحقيقي، ويأمن العقوبة فيسيء الأدب بارتكاب جريمة أخرى: فيختل بذلك النظام العام. لذلك كفلت الشريعة الإسلامية حق الدفاع، ومنعت حرمانه منه بأي حال ولأي سبب من الأسباب. ففي الحديث المرفوع أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين ولاه اليمن: «يا علي: إن الناس سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تقضين لأحدهما حتى تستمع من الآخر كلما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء وتعلم عن الحق»، قال علي: (فما زلت بعد قاضياً).
وروى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال لأحد قضاته: (إذا اتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأيت خصمه، فلعله قد فقئت عيناه جميعاً).
والأصل في الدفاع أن يتولاه المتهم بنفسه، لأنه حقه بشرط أن يكون قادراً عليه، فإن كان عاجزاً عن ذلك لم تصح إدانته، ولذلك فقد ذهب بعض الفقهاء إلى منع معاقبة الأخرس على جرائم الحدود، ولو اكتمل نصاب الشهادة ضده، لأنه لو كان ناطقاً لربما ادعى شبهة تدرأ الحد عنه، لأنه لا يقدر على اظهار كل ما في نفسه بالإشارة وحدها ولو أقيم عليه الحد باكتمال الشهادة لم يعتبر ذلك عدلاً، لأنه اقامة للحد مع الشبهة، ونحن لا نقول بهذا هكذا، ولكن القاعدة: (بطلان إدانة من لم يتمكن من دفاع معتبر) صحيحة لا يجوز تجاوزها.
الحق الثاني للمتهم: الاستعانة بمحام: أما استعانة المتهم بمن يدافع عنه فلا نعلم فيما اطلعنا من نصوص الشريعة، لا من أقوال الائمة المجتهدين ما فيه تصريح بحظر ذلك، أو حتى كراهيته. والكاتبون في أحكام القضاء، وأداب القاضي لم يتعرضوا إلى عملية الدفاع وتنظيمها وهل جرى العمل بطلب المتهم من يدافع عنه أم لا؟
وذلك ربما يعود إلى أن مجالس القضاء في العهود الإسلامية الزاهرة كانت مجالس علنية حافلة، تعقد في المساجد، ويغشاها كبار أهل العلم والفقه في البلد، وربما شاركوا في المشورة والنصح، ويشكل وجود هؤلاء في الغالب رقابة أمينة تساعد القاضي على أن يقضي بالعدل.
على أن الإمام أبا حنيفة قد جوز الحكم على من له وكيل على وكيله بعد الدعوى وينفذ الحكم على المدعى عليه. وبمثله قال الآخرون.
ولعل عدم وجود ممارسة تاريخية للمحاماة في الأزمنة المتقدمة هو بعض ما يعتذر به أكثر المشايخ من القضاة «الشرعيين» في ما يسمّى بـ«السعودية» لنفورهم من المحاماة، ورفضهم الشديد لحضور المحامي لجلسات القضاء، لا سيما في القضايا الجنائية، وهي أمور جربتها بنفسي عندما كنت أعمل بعض الوقت محامياً في مكتب والدي للمحاماة. ولعل بعض الممارسات الخاطئة للمحاماة في القضاء المصري، الذي يقلّد، على نحو مشوَّه، النموذج الغربي العلماني، والقصور في الأنظمة المدنية، زادت من نفور أولئك المشايخ ورفضهم للمحاماة. وكل هذا لا عذر لهم فيه، وإن كان هذا يبرهن على جمودهم الفكري، وقصورهم الفاضح في الفقه الشرعي، كما سوف نبين قريباً. وربما كان فيه أيضاً نوع من غلبة الهوى على بعض هؤلاء المشايخ الذين اشتهروا بالجفاء والتعنت، للأسف الشديد، لأن وجود المحامي يشكل رقابة وتقييداً للقاضي، وإحراجاً له في كثير من الأحيان، وهم يريدون التكبر والاستمتاع بالسلطة المطلقة في مجلس القضاء، وربما برروا ذلك وتستروا وراء ما يسمونه «هيبة القضاء».
والتحقيق أن الاستعانة بمحام، وبالخبراء وغيرهم، حق يقيني ثابت لكل متهم أو مدعى عليه، وذلك للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن هذا من باب الإنابة والوكالة وهي حق ثابت بالأدلة القطعية من الكتاب، والسنة، والاجماع المتيقن، والقياس، لكل أحد في كل الأمور، بل ثبت بالنص أنها تجوز في بعض العبادات، إلا ما ورد الدليل الشرعي بالمنع من الوكالة فيه كأداء الصلاة. فجاء هؤلاء الجفاة الجامدون فحرموها بدون دليل، ولا حتى شبهة دليل.
الودليل الثاني: لقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ (وفي رواية: ألحن) من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك! فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها»، كما ثبت في حديث غاية في الصحة، أخرجه البخاري، وهذا لفظه، والإمام مالك، وأحمد، وأبو داود وغيرهم بأسانيد غاية في الصحة، تقوم بها الحجة اليقينية القاطعة. وهذا الحديث يؤكد عدة حقائق في غاية الأهمية:
أولاً: حقيقة شرعية هامة هي: أن حكم القاضي لا يغير حقائق الأشياء عما هي عليه، وأن من حكم له بغير حق، وهو يعلم، لا يجوز له قبول ذلك، وإن قبله فهو معرض للعقوبة الإلاهية في الآخرة لا محالة. هذا ينطبق على جميع أطراف الترافع، لا فرق بين أصيل ووكيل. لذلك فلا يحل لمحامي يؤمن بالله واليوم الآخر أن يطالب بباطل عالماً، أو أن يدافع إلا عمن تطمئن نفسه إلى براءته، وعليه الإنسحاب أثناء القضية إذا شك شكاً معتبراً في براءة موكله.
هذا هو بعض أدب المحاماة في الإسلام، وإذا عرف المتهم ذلك وأن المحامي سوف يكون في حل منه، وسوف ينسحب إذا اكتشف كذبه وتضليله فلن يجد أمامه إلا طريق التوبة والحق، وبهذا تزول أكثر المفاسد والإنحرافات التي تصحب مهنة المحاماة في الغرب. هذه المعالجة مستحيلة في النظام العلماني، لأن الإيمان بالله واليوم الآخر مستبعد عن الاعتبار. نعم: قد يستبدل ببعض آداب المهنة وأخلاقياتها، ولكن هذه أضعف بكثير، وأقل إلزامية من الوازع الديني الإيماني، وازع الإيمان بالله واليوم الآخر.
ثانياً: وهو كذلك يؤكد حقيقة كونية ثابتة: ألا وهي أن إحسان الترافع، والإتقان في تحرير القضية وعرضها له تأثير وفعالية لا تنكر، بل قد يؤدي إلى تضليل القاضي بحيث يحكم بظاهر، هو خلاف الحق في نفس الأمر، وأن ذلك قد يحصل للمعصوم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، نفسه، فمن باب أولى قد يحصل لغيره.
فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بلا شك، بنص كلام خاتم أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، فإن إحسان الترافع، والإتقان في تحرير القضية وعرضها، لصاحب الحق، والمتهم ظلماً، يكون مندوباً إليه على أقل تقدير، من باب [التعاون على البر والتقوى]، إن لم يكن واجباً في بعض الأحوال: إظهاراً للحق، ومنعاً للظلم، و[ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب]!
الدليل الثالث: ولما أخرجه الإمام الترمذي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة سمعه من أبي هريرة، وزيد بن خالد، وشبل، أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان فقام إليه أحدهما وقال: (أنشدك الله، يا رسول الله، لما قضيت بيننا بكتاب الله!)، فقال خصمه، وكان أفقه منه: (أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي فأتكلم: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، ففديت منه بمائة شاة وخادم، ثم لقيت ناسا من أهل العلم، فزعموا أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأة هذا!)، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها!»، فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها]، هذا حديث غاية في الصحة، مسلسل بالأئمة الثقات الأثبات. وقال الترمذي: (حديث أبي هريرة وزيد بن خالد حديث حسن صحيح)، وأخرج البخاري مثله مختصراً بأسانيد غاية في الصحة، مسلسلة بالأئمة الثقات الأثبات.
تأمل هذا الحديث الصحيح الجميل المملوء بالحكم والأحكام! وهو صريح في إذنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لوالد المتهم بالترافع عن ولده «المتهم»، بل لعل ذلك الإبن لم يكن حاضراً في مجلس القضاء، بما في ذلك تقديم الإقرار ضمناً، والمحاورة حتى حول تفاصيل الحكم الشرعي الواجب تطبيقه في الواقعة.
الدليل الرابع: وقال الإمام أبو داود: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة (ومحمد بن عبيد المعنى) قالا: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود. فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: «الكبر الكبر»، أو قال: «ليبدأ الأكبر»، فتكلما في أمر صاحبهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته؟!»، قالوا: (أمر لم نشهده، كيف نحلف؟!)، قال: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟!»، قالوا: (يا رسول الله: قوم كفار!!)، قال فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله. قال سهل: (دخلت مربداً لهم يوماً، فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها)]. قال الإمام أبو داود: (رواه بشر بن المفضل، ومالك، عن يحيى بن سعيد قال فيه أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم، ولم يذكر بشر دما، و قال عبدة عن يحيى كما قال حماد، ورواه ابن عيينة عن يحيى فبدأ بقوله تبرئكم يهود بخمسين يمينا يحلفون ولم يذكر الاستحقاق، قال أبو داود: وهذا وهم من ابن عيينة)، هذا حديث غاية في الصحة، مسلسل بالأئمة الأثبات، وأخرج مثله بأسانيد غاية في الصحة الأئمة مسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم.
ــ وقال الإمام النسائي: أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال أنبأنا ابن وهب قال أخبرني مالك بن أنس عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة أخبره بمثله، إلا أنه قال: [ثم أقبل (أي محيصة) حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، ثم أقبل هو وحويصة، وهو أخوه أكبر منه، وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كبر! كبر!»، وتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب»، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكتبوا: (إنا، والله، ما قتلناه!)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم»، ...إلخ]، وهذا كذلك إسناد غاية في الصحة.
ها هنا يأمر النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بأن يبدأ حويصة، وهو أكبر الخصوم سناً، مفتتحاً للمرافعة، بالرغم من كونه ليس ولياً للدم، فولي الدم هو عبد الرحمن بن سهل بن زيد، أخو القتيل، وبالرغم من كون محيصة هو المطلع على ملابسات الحال في خيبر، ثم شارك الجميع في المرافعة. لا يقال أنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يكن على علم مجمل بالواقعة من قبل، فرواية النسائي من طريق مالك تثبت أن محيصة أطلعه على مجمل الحال، قبل عودته مع حويصة، أخيه الأكبر، وعبد الرحمن بن سهل للترافع بالخصومة. وليس هناك ما يستشكل في قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ليبدأ الأكبر»، لأنهم لم يأتوا فرداً فرداً، وإنما جاءوا كمجموعة أو صحبة مترابطة، والجماعة المترابطة يتكلم عنها، ويقودها، أميرها، وهو الأكبر سناً في العادة آنذاك، ما لم يظهر ترتيب خلاف ذلك أو يعلن هو عن غير ذلك، فلا يجوز أن يكون الترافع، لا سيما في مجلس القضاء، فوضى: هذا يتكلم، وهذا يقاطع، وهذا يشوش ويشاغب، هذا والله أعلم حكمة قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «كبر، كبر» أو «ليبدأ الأكبر».
والحديث حجة قاطعة علي حق المدعي في الاستعانة بمن يشاء في مرافعته، وإذا ثبت هذا الحق لأحد طرفي الدعوى لم يجز منعه من الطرف الآخر إلا ببرهان من الله، وليس ثمة شئ من ذلك، بل البرهان على خلافه قائم، كما أسلفنا في قصة «العسيف» آنفة الذكر.
الدليل الخامس: لما كانت نصوص الشرع متضافرة على وجوب التسوية بين الخصمين باللفظ واللحظ والمجلس وسائر الأمور، وإذا عرفنا ان التفاوت بين المتخاصمين في الفهم والرأي والمعرفة والبيان والحجة أمر واقع تكاد لا تخلو منه خصومة بما في ذلك الخصومات التي ترفع للمؤيد بالوحي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فإننا نستطيع أن نقرر بأن أية أسلوب أو اجراء سليم يمكن أن يؤدي إلى التسوية أو ما يقرب منها في هذا الأمر مشروع لا غبار عليها، بل هو مستحب مندوب إليه، في أقل التقدير.
فاستعانة المتهم بمساعد للدفاع، من أهل الفقه والخبرة والاحتراف، صافي الذهن لا يكدر صفاء ذهنه خوف ولا قلق، أمر مشروع، ليتمكن المتهم بمساعدة محاميه هذا من معرفة حقيقة التهمة الموجهة إليه، والحكم الشرعي المتعلق بها، وأدلة الاتهام وقوتها من ضعفها، والأدلة الواقعية الدارئة لها، وكيفية استعمالها، ولكي لا يقع القاضي تحت تأثير قوة حجة أحد الخصمين وضعف الحجة أو عيّ الآخر.
الدليل السادس: قوله، تعالى ذكره، في آية الدين من آخر سورة البقرة: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل ولية بالعدل}، (البقرة؛ 2:282)، فأمر الله الولي أن يقوم مقام الذي عليه الحق، وهو الذي له الحق شرعاً في إملاء أقارير الديون ونحوها، إذا كان هذا الذي عليه الحق عاجزاً عن ذلك لأي سبب من الأسباب. هذا في الحقوق المالية التي يترتب عليها فقط ضياع مال. لذلك جاز، من باب أولى، أن يقوم الولي، أو من ينصبه المتهم نائباً كالمحامي، بالوكالة عن المتهم في الترافع، وإعطاء الأقارير وغيرها، ما دام هو غير قادر على ذلك لأي سبب من الأسباب. بل يجب أن يوكل عنه إذا كان سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يترافع هو!
لذلك فإننا على يقين راسخ، ونستطيع أن نقرر بكل ثقة واطمئنان أن حق الدفاع حق أصيل ثابت للمتهم، له أن يمارسه بنفسه، وله أن يفوضه لغيره، وعلى القاضي أن يمكنه من ذلك، ولا يجوز حرمانه منه بحال من الأحوال.
ولقائل أن يقول: إن المدافع عن العيي قد يكون أبلغ حجة من الخصم، فلا بد أن نجيز له في هذه الحالة أن يستعين ممن هو أبلغ: فالنسبة بينهما في هذا أمر متعذر؟! ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وهذا محال.
والجواب: إن لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأن علينا أن نبحث عن التسوية أو ما يقرب منها، فذلك أفضل من حرمان أحد الخصمين من الاستعانة بمن يجيد بسط حجته، وإظهار أدلته، وتفنيد أدلة خصمه، وجعل القاضي على بينة من الأمر تعصمه من الوقوع في الباطل، وتعينه على إحقاق الحق، وإقامة العدل. وإلا فإن التفاوت في بلاغة الخصمين أنفسهما لا يمكن تلافيه، فضلاً على أن حق الخصم في توكيل من يطمئن هو إلى قدرته وفصاحته ثابت مكفول على كل حال. كما أن لكل أطراف النزاع الحق في تغير الوكيل أو المحامي أثناء القضية، ومن ثم تلافي ما قد يظهر منه من قصور أو عدم قدرة في حينه عند اللزوم.
حكى الخشني في تاريخ قضاة قرطبة: [أن رجلين اختصما إلى القاضي أحمد بن بقي، فنظر إلى أحدهما يحسن ما يقول، والآخر لايدري ما يقول، ولعله توسم فيه ملازمة الحق. فقال له: يا هذا لو قدمت من يتكلم عنك، فإني أرى صاحبك يدري ما يتكلم به، فقال له: أعزك الله إنما هو الحق أقوله كائناً من كان. فقال القاضي: ما أكثر من قتله قول الحق].
ولكن الماوردي قال: [فإن قال له: استعن بمن ينوب عنك فإن اشار به إلى الاستعانة في الاحتجاج عنه لم يجز. وإن أشار به إلى الاستعانة في تحقيق الدعوى جاز، ولا يعين له من يستعين به]
فهذان قاضيان، أحدهما: يحرض الخصم العيي على الاستعانة بمن يحاجج عنه. والآخر لا يرى هذا، مما يدل على أن المسألة اجتهادية.
والتحقيق أن القاضي أحمد بن بقي، رحمه الله، ورفع درجته، وهو ليس بالعالم المشهور، ولا بالمؤلف المعروف، ولولا تأريخ الخشني له لذهب ذكره، قد وفق للصواب في هذه المسألة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، في حين أن قول الماوردي، وهو عالم كبير وإمام شهير، جاء عارياً من الدليل، فضلاً عن مصادمته لما ذكرناه أعلاه من الأدلة، فإذا كان الأمر كذلك فالصحيح المتيقن هو جواز اتخاذ الخصم محامياً له، بل وجوبه لمن كان ضعيفاً، أو سفيهاً، كما يجب على الدولة أن تعين له محامياً إن عجز هو لفقره أو لغير ذلك من الأسباب، عن الاختيار. وهذا الحق يتغلَّظ ويتأكد أكثر في القضايا الجنائية، سواء في ذلك جرائم الحدود التي تكون في حق الله تعالى أو الجرائم المشتركة بين حق الله وحقوق العباد، كالقصاص والجنايات.
كما أن الواقع المعتاد في النظم الاجرائية المعاصرة هو أن المتهم يواجه خصماً قوياً عنيداً، الحن وأبلغ بحجته منه بدون شك، وهو النيابة أو الأدعاء العام أو حتى مندوب أجهزة التحقيق أوالشرطة، وهم كلهم محترفون متخصصون في هذا الشأن متفرغون له، فهو، أي المتهم، أحوج ما يكون إلى من يعينه على بسط أدلته، ودحض أدلة اتهامه.
ولكن هل يسمح له باتخاذ المحامي في مرحلة التحقيق أو لا يسمح إلا في مرحلة المحاكمة فقط؟!
ولما كنا قد قررنا مشروعية اتخاذ المحامي على وجه العموم، لذلك لا يجوز أن تكون هناك شبهة في مشروعية ذلك للمتهم في مرحلة التحقيق. والأولى لتحقيق جوانب الدعوى المختلفة أن يرافق المحامي موكله في المرحلتين، ذلك لأن من مستلزمات الدفاع أن يحاط المتهم علماً بالواقعة المسندة إليه، والأدلة المتوفرة ضده، ووجود من يعينه على فهم ما أسند إليه، وينبهه على ما له، وما عليه في ذلك، ويساعده في كثير من الجوانب الايجابية التي تجعل من المؤكد أن يؤذن للمتهم بالاستعانة بالمحامي من حين مواجهته بالاتهام. بل إن مشاركة المحامي في مرحلة التحقيق أولى وآكد لأن المتهم يواجه عادة أجهزة الشرطة والتنفيذ التي لا تتمتع بالعلم والإنضباط الشرعي الذي يتمتع به القاضي في مجلس القضاء، وهي، أي أجهزة الشرطة والمباحث، معروفة بكثرة التجاوزات، وفداحة الأخطاء.
وربما اعترض بعض الناس أن المحامي إذا حضر أثناء التحقيق فلربما لقَّن المتهم ما يستطيع به هذا أن يفلت من الإدانة، ومن ثم ينجو من العقوبة العادلة، فنقول: هذا إنما يحدث في النظم العلمانية حيث تختلف المقاييس والمفاهيم، أما في نظام الإسلام فالمحامي، ذي التأهيل الشرعي السليم، ينتظر منه أن لا يلقن ما يؤدي إلى إيقاع ظلم بطرف آخر. أما التلقين في ما يندفع به الحد في أمور الفسق الذاتي، كالزنا ونحوه، فلا بأس به، خلافاً للمصابين بهوس الانتقام، وشهوة العقوبة، كما تدل عليه نصوص كثيرة كالتي جاءت في قصة ماعز، وقصة الغامدية، وقصة الجهنية، رضي الله عنهم، حيث قام خاتم أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتبريكات وتسليمات من الله، بنفسه تارة بطرد المتهم، والامتناع عن السماع منه، وتارة يصيح عليه: «ويحك: وما يدريك ما الزنا؟!»، وتارة بتلقينه مخارج مختلفة: «لعلك قبلت؟!»، «لعلك كذا وكذا»، وقال مرة للص: «ما أظنك سرقت!».
ونحن ندين الله أن ما ذكرناه من الأدلة ها هنا قطعي لا محيص منه لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
الحق الثالث للمتهم: حقه في الصمت، وعدم الكلام: ومقتضى هذا الحق تمكين المتهم من إبداء أقوله في حرية تامة، ودون ضغط أو إكراه أو تعذيب أو خديعة، أو أي شيء يؤثر على الإرادة الحرة للمتهم، ويدفعه إلى الإدلاء بأقوال معينة: كاستخدام العقاقير المخدرة، أو التنويم المغناطيسي أو التهديد أو التعذيب، أو غير ذلك.
وللمتهم كذلك الصمت والامتناع عن الاجابة مطلقاً عن كل أو بعض أسئلة المحقق، وإذا أجاب، وتبين أن ما أجاب به كان كذباً فلا يعتبر شاهد زور، ولا يعاقب بعقابه.
وإذا أقر على نفسه بحق أو بحد فله الرجوع عنه، ورجوعه عن الإقرار مسقط لاعتباره مطلقاً، على تفصيل سنذكره بعد قليل، إن شاء الله تعالى.