فصل: من هو المتهم؟!
المتهم في اللغة: التُهْمة بسكون الهاء (وفتحها أيضاً): الشك والريبة. والتاء مبدلة من «الواو» لأنها من «الوهم» ويقال: (اتهم الرجل اتهاماًَ) مثل (اكرم إكراماً) إذا اتى بما يتهم عليه. «واتهمته» فهو «متَّهَم» بالتثقيل.
وفي الإصطلاح وردت كلمة «المتَّهَم» بمعناها في اللغة في بعض الأحاديث والآثار، منها ما رواه عبد الرزاق في المصنف من حديث أبي هريرة قال: [بعث رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، منادياً في السوق: أنه لا يجوز شهادة خصم ولا ظنين. قيل: وما الظنين؟ قال: المتهم في دينه]. وعن ابراهيم قال: [كان يقول: لاتجوز شهادة متهم....]
وقال الإمام البخاري: [باب: من أظهر الفاحشة واللطخ والتهمة بغير بينة]
أما في عرف الفقهاء فقد شاع استعمال لفظ «المدَّعَى عليه» بدلا من «المتهَّم» أخذاً من «الإدعاء»، وهو: «قول يطلب الإنسان به إثبات حق على الغير»، والدعوى اسم بمعنى المصدر، فإذا ادعى زيد على عمرو مالاً، فزيد «مدِّعِي»، وعمرو هو «المدَّعَى عليه»، والمال «مدَّعَى» أو «مدَّعَى به»، والمصدر: «الادعاء»، والاسم «الدعوى»، وألفها ألف تأنيت فلا تنون، ويجمع على «دعاوى».
والدعوى في اللغة غير التهمة، وهي أوسع منها، فهي: الإخبار مطلقاً.
وأما في عرف الفقهاء فعند الحنفية: «أخبار بحق له على غيره الحاضر معه في مجلس القضاء»
وعند الشافعية هي: «أخبار بحق له على غيره عند الحاكم».
وهذان قولان ضيقان، جعلا الترافع إلى الحاكم أو حتى الوجود في مجلس القضاء ركناً في المعني.
وعند المالكية هي: «قول لو سلم، وجب لقائله حقاً»، وهذا فيه إشكال: فلو لم يسلم لما وجب لقائله حق هذا صحيح، ولكن هل يعني هذا أنها لم تكن «دعوى»؟!
وعرفها الحنابلة بأنها: «إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته»، وهذا أجود، لا سيما لو حذف الشطر الثاني، فتكون الدعوى إذاً: «إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء»
واختلفت كلمات الفقهاء في تفسير كلمتي «المدعي» و«المدعى عليه» فمنهم من قال المدعي: «من إذا تَرَك تُرِك»؛ والمدعى عليه: «من لايُترك إذا تَرَك».
ومنهم من قال: «المدعي من لا يجبر على الخصومة»، والمدعى عليه: «من يجبر». وهذا بسط وشرح للسابق.
ومنهم من قال: المدعي: «من يدعي باطناً يزيل به ظاهراً»، والمدعى عليه: «من ثبت ظاهراً على حاله».
ومن البين أن «الادعاء» وما تصرف منه عند الفقهاء أكثر ما يستعمل في الدعاوى المتعلقة بالحقوق المالية، والأحوال الشخصية فقط: كالقرض والغصب والبيع والاجارة والرهن والصلح والوصية والجناية الموجبة للمال، والنكاح والطلاق والخُلع والعتق والنسب والكتابة والتوكيل، ونحو ذلك، لأن هذا النوع من الدعاوى هو الذي كان يخول للقضاة بالنظر فيه غالباً. ولكن ليس هناك ما يمنع من استخدام لفظ «المتهم» بدلاً من «المدَّعَى عليه» في القضايا الجنائية، بل قد تكون التسمية هي الأنسب في هذا المجال بعد كل ما عرفنا من اللغة والأثر في الاصطلاح.
* فصل: هل يجوز «الحبس في التهمة»؟!
الأصل في كل متهم أنه: «بريء حتى تثبت إدانته»، هذا أصل يقيني، وضرورة شرعية وعقلية، لا يجوز تجاوزها، ولا التساهل في تطبيقها مطلقاً. فلا يجوز أصلاً أن يطالب متهم بما يثبت براءته، لأنها ثابتة في الأصل بيقين. وبذلك يقع عبء البرهان على صحة الاتهام أو الدعوى بكامله على جهة الاتهام أو الادعاء.
ومع ذلك فقد قسم أكثر الفقهاء المتهمين في الدعاوى الجنائية إلى ثلاثة اقسام:
(1) ــ متهم معروف بالتقوى والصلاح، يبعد أن يكون من أهل تلك التهمة.
(2) ــ متهم معروف بالمعصية والفجور، سبقت عقوبته على جريمة مماثلة، أو جرائم أخرى، ولا يبعد أن يكون قد ارتكب ما ادعى عليه أو اتهم به.
(3) ــ متهم مستور، مجهول الحال لا يعرف بأي من الحالين.
أما الأول فلا يقبل اتهامه عندهم من غير دليل مقبول شرعاً، ولا تتخذ ضد هذا النوع من الناس إجراءات بمجرد الاتهام لئلا يستهين الأشرار بمضايقة أهل الفضل والأقدار بمجرد الاتهام، وقد اختلفوا في عقوبة المدعى أو المتهم لمثل هذا النوع من الناس على قولين: أصحها ــ عند جمهور الفقهاء ــ أنه يعاقب. وذهب مالك وأشهب إلى أنه لا يعاقب المدعي إلا إذا ثبت أنه قصد بدعواه إيذاء المتهم، وإثارة الشبهات حوله، أي إلا إذا ثبت أن دعواه «كيدية»، وهذا هو الحق لأن «الأعمال بالنيات»، ووجود قصد الأذى والإساءة ركن في كل جريمة، لا يمكن التغاضي عنه.
والدليل الأصولي الذي يقوم عليه حكم الجمهور في هذه المسألة هو استصحاب حال البراءة الأصلية)، كما أسلفنا.
أما النوع الثاني فاستصحاب الحال مع الأخذ بـ«الأحوط» يسوغان تقييد حريته، والتحقيق معه، والتثبت من صحة ما نسب إليه، أو عدمه، ولا يكتفي بمجرد إنكاره، ولا بيمينه، بل لابد من التثبت من حقيقة ما نسب إليه، ولسلطة التحقيق الشرعية سواء كانت للوالي، أو القاضي حبس المتهم للتحقيق.
أما القسم الثالث ـ هو المتهم المستور، مجهول الحال ـ الذي لايعرف ببر ولا فجور. فللقاضي أو الوالي حبسه والتحقيق معه حتى ينكشف حاله. ذهب إلى هذا عامة علماء الإسلام، ونص عليه أكثر الأئمة: مالك وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وذلك لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوماً وليلة»، وخالفهم الأئمة: الشافعي وابن حزم، وأكثر أهل الظاهر.
ومفهوم الحبس عندهم هو «التعويق» وتحديد الحرية، وسواء كان: بوضعه في سجن معد لذلك، أو وضعه تحت المراقبة، أو الزامه بالحضور في مكان محدد.
أما الفترة التي يحق للقاضي أو الوالي حبس المتهم لها، فقد اختلفوا فيها كذلك على قولين فبعضهم قدرها بشهر، وبعضهم ذهب إلى أن الأمر متروك لاجتهاد الوالي أو الحاكم.
هذا هو ملخص ما قال به جمهور الفقهاء، ولنا عليه استدراكات وملاحظات، من أهمها:
* «اليقين لا يزول بالشك» قاعدة عقلية لا يجوز التساهل فيها، أكدها الوحي في مواضع كثيرة، قال، تقدست ذاته، وتباركت أسماؤه: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا}، وقال: {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، وقد تضمنتها الشريعة في العديد من الأحكام، في مثل قوله نعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا}، وزاد خاتم أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، هذا وضوحاً عندما قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»، فظهر بذلك أن الظن الذي لا يأثم به الإنسان هو ما يتردد في النفس، ويحيك في الصدر، وفق الطبيعة البشرية، ومحدودية العقل الإنساني، هذه الظنون والوساوس يجب دفعها، وعدم الاستسلام لها، فإذا لم يفعل الإنسان وتكلم بذلك، كان كلامه كذباً، وأثم هو بذلك، فإذا زاد فعلاً على القول الكاذب لم يزد إلا إثماً. وليس هذا من بنات أفكارنا أو إبداعنا، بل هو قول الإمام سفيان بن عيينة:
* كما جاء في «سنن الترمذي»: [حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»]، قال أبو عيسى: (هذا حديث حسن صحيح قال وسمعت عبد بن حميد يذكر عن بعض أصحاب سفيان، قال: قال سفيان: (الظن ظنان: فظن إثم، وظن ليس بإثم، فأما الظن الذي هو إثم فالذي يظن ظنا ويتكلم به، وأما الظن الذي ليس بإثم فالذي يظن ولا يتكلم به)]، وقال الألباني: (صحيح)، وهو كما قالا.
وقاعدة «البراءة الأصلية»، أي: «أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، أو «البينة على المدعي»، قاعدة متينة لا تزول بشك، وهي من القواعد التي اهتمت بها الشريعة، وأقامت عليها كثيراً من الأحكام، ولم تسمح بنفيها أو تقييدها بغير الأدلة اليقينية، وهي ترتبط بقاعدة «اليقين لا يزول بالشك» ارتباط الفرع بالأصل، ويدخلان معاً في أبواب من الفقه كثيرة جداً.
هذا هو النظر السديد الذي يأخذ بجميع الأدلة، ولا يستسلم للوساوس أو الفرضيات الخيالية، وهو عين ما نص عليه الإمام أبو محمد علي بن حزم في «المحلى»، (ج: 11 ص: 131 وما بعدها): [فإذ لم يبق لمن رأى السجن حجة فالواجب طلب البرهان على صحة القول الآخر فنظرنا في ذلك فوجدنا من قال بسجنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون متهما لم يصح قبله شيء أو يكون قد صح قبله شيء من الشر فإن كان متهما بقتل أو زنى أو سرقة أو شرب ذلك فلا يحل سجنه لأن الله تعالى يقول وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وقد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتهمون بالكفر وهم المنافقون فما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدا وبالله تعالى التوفيق]
* إن اتهام الناس ورفع الدعاوى الكاذبة عليهم، بقصد الإساءة، أو التشهير، أو تشويه السمعة، أو إلصاق التهم الباطلة وتعريضهم لعقوبتها، أو أي نوع من أنواع الضرر: محرم لا يجوز، وذلك بغض النظر عن إسلام المتهم أو كفره، صلاحه وفجوره، سبق معاقبته من عدمها. لذلك تجب عقوبة من يوجه التهمة أو يترافع بدعوى «كيدية»، إذا ثبت عليه ذلك، ولا يجوز أن يعاقب بمجرد الظنة. وهو، أي المدعي أو المتَّهِم، مطالب على كل حال بالبينة والإثبات، وعليه يقع، لا على المتهم، عبء البرهان. وفيما إذا كانت التهمة قذفاً بالزنا، مثلاً، فمجرد عجز القاذف عن الإتيان بأربعة شهداء يوجب إدانته شرعاً بجريمة القذف، وإقامة حدها عليه. أما بالنسبة لغير ذلك من التهم فللدولة أن تسن من التعزيرات ما فيه تأديب، وتطهير، لأهل الدعاوى «الكيدية».
فعلاج المشكلة لا يكون بتقسيم المتهمين إلى ثلاثة أقسام، أو أكثر أو أقل، وإنما بتحميل من تقدم بالاتهام، أي المدعي، عبء البرهان، وفق القاعدة الشرعية: «البينة على المدعي»، وكما قال تقدست أسماؤه: {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، فكل من ادعى دعوى بدون برهان فهو كاذب، معرض لعقوبة السلطان في الدنيا، مستحق لذم الله وعقوبته في الآخرة!
* الأصل أن تقييد الحرية من أتواع العقوبة، وهذه لا تجوز شرعاً إلا بعد ثبوت الجريمة والإدانة وصدور حكم بشروطه الشرعية، فلا يجوز ايقاعها بمجردالشبهة: فالأصل أن حرية الإنسان مكفولة، فله أن ينتقل حيث يشاء، كما يشاء: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها...} الآية، فليس لأحد أن يحبس إنساناً عن السعي في الأرض بغير حق، وهذا هو الحق الذي تدل عليه النصوص الشرعية.
نعم: هذا هو الأصل المقطوع به إلا إذا جاء دليل شرعي مستقل يدل على المشروعية مثل حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوماً وليلة»، وفي رواية: «ساعة من نهار». وفيه خلاف ناقشناه في الملحق، ولو فرضنا أن الإمام، أي الدولة، تبنت صحة الحديث، (وهي في هذه الحالة لا مناص لها من معاقبة مانع الزكاة بمصادرة نصف ماله، كما ورد بنفس الإسناد، وأمور أخرى).
فلو فرضنا أن الدولة تبنت مشروعية «الحبس الاحتياطي»، فلا بد لها من وضع الأحكام واللوائح الإجرائية المناسبة المنظمة لـه مع ملاحظة أنه جاء استثناءً، خلاف الحرية الأصلية، وأنه إنما جاز بشروط كثيرة، منها:
(أ) ما يتعلق بالغاية التي حبس من أجلها،
(ب) ومنها ما يتصل بصفة الآمر بالحبس واختصاصه فلا بد أن يكون قاضياً، فلا يصدر ذلك إلا من قاض له التأهيل الشرعي المناسب، والاستقلالية والحياد الضروري، ولأن القاضي هو وحده المؤهل للنظر في القرائن والملابسات، وشخصية المتهم، ومخاطر العبث بالأدلة إن أطلق سراح المتهم، والمدة المعقولة للحبس إلى غير ذلك من الاعتبارات المهمة.
(ج) ومنها ما يعود إلى الأمر به، فلا أن يكون ذلك في مجلس قضاء، لأن لمجلس القضاء من الحرمة، ولما يقدم فيه من البينات والأدلة والأيمان من الغلظة، ولما يتعلق بإجراءاته من التوثيق والضبط ما لا يوجد في غيره من أعمال الدولة الرسمية.
(د) ومنها ما يرجع إلى مدته، فيستحسن أن تكون هناك مدة قصوى يحددها النظام، قابلة للتمديد، بحيث يتم تمديدها بإعادة النظر في جلسة قضاء جديدة.
هذه الأمور كلها لولي الأمرالشرعي تنظيمها ووضع الأحكام الاجرائية اللازمة لها حسبما تقضتيه السياسة الشرعيةالمناسبة لذلك الزمان والمكان