جريمة الاحتيال
نعرض في هذا الباب القواعد العامة التي تخضع لها فكرة الاحتيال في قانون العقوبات ثم نتبع ذلك بتفصيل الأركان العامة لجريمة الاحتيال في الفصل الأول ونبين العقاب عن الاحتيال في الفصل الثاني،على ما سيلي بيابنه.
مبحث تمهيدي
القواعد العامة التي تخضع لها
فكرة الاحتيال
- مفهوم الاحتيال :
لم يستخدم المشرع تعبير " النصب " في المادة 399 ع. أ. بدلا من ذلك استخدمت المادة السابقة تعبير "الاحتيال"، ليؤدي نفس مفهوم النصب، بقولها" كل من توصل إلى الاستيلاء لنفسه أو لغيره على مال منقول أو سند أو توقيع هذا السند أو إلى إلغائه أو إتلافه أو تعديله وذلك بالاستعانة بطريقة احتيالية أو .... ". من هذا يبين أن جريمة الاحتيال أو النصب هي" الاستيلاء على مال منقول مملوك للغير بنية تملكه بطريقة بوسيلة احتيالية ".
- المجني عليه في جريمة الاحتيال :
يحمي تجريم الاحتيال مصلحتين" الأولى هي الملكية، والثانية هي الإرادة في التعاقد. فالاحتيال يقع اعتداء على ملكية المجني عليه حيث يلزم لوقوع الجريمة نية التملك لدى الفاعل. فإذا احتال شخص على آخر ليستعير منه كتابا أو ماكينة ري لمدة مؤقتة يردها بعد ذلك، لا يرتكب جريمة الاحتيال .
وإذا كان المال محل الجريمة في حيازة غير المالك واستطاع الفاعل أن يحتال عليه ليتحصل على ذلك المال، فإن الجريمة تقع اعتداء على مالك المنقول. كما أن حائزه يعتبر مضرورا مباشرة من الجريمة ويستطيع الادعاء مدنيا أمام القضاء الجنائي .
أما في حالة بيع ملك الغير كوسيلة من الوسائل الاحتيالية ، فإن صاحب العقار محل البيع ليس مجنيا عليه في النصب لأنه من الغير بالنسبة للبيع الذي لم يكن طرفا فيه كما أنه ليس مضرورا مباشرا من الجريمة، لأنه إذا حاول المشتري أن يستولي على العقار، فإن ما يحدث لصاحب العقار من أضرار سواء من جراء الاستيلاء على العقار أم بسبب اعتداء المشتري أو البائع عليه ليس مرتبطا بعلاقة مباشرة بالجريمة، لأنه ناتج من عمل منفصل عنها إذ، إنه لاحق على وقوعها. وبالتالي لا اختصاص للمحكمة الجزائية بنظر دعواه المدنية.
وإذا كان المال محل البيع منقولا ولم يكن في حيازة الفاعل، فإن القواعد السابقة تسري أيضا، ذلك أن صاحب المنقول من الغير. أما إذا كان المال المنقول في حوزة الفاعل، فإن صاحب المنقول مجني عليه أيضا من الجريمة ومضرور بصفة مباشرة منها .
وبالإضافة إلى حماية الملكية ، فإن القانون يحمي الإرادة من أن تقع محلا لوسائل احتيالية في التعاقد. وهنا يختلف الاحتيال في النصب عن التدليس المدني على ما سيلي.
ويلاحظ أنه لا يحول دون وقوع جريمة الاحتيال أن يرتكب المجني عليه خطأ مهما بلغت جسامته حتى ولو كان التعاقد بين المتهم والمجني عليه الذي سلم المال بمناسبته يرمي إلى ارتكاب جريمة. فإذا احتال شخص على امرأة وأقنعها بأنه مالك لشقة وأنه يوافق على تأجيرها لأعمال الدعارة وحصل منها على مبلغ نقدي، فإن جريمة النصب تقوم رغم ذلك. وكذلك الحال إذا دفع المجني عليه مبلغا من المال لرشوة شخص اتضح أنه ليس موظفا عاما.
- خصائص الجاني والمجني عليه في الاحتيال :
يتميز الجاني في جريمة الاحتيال بارتفاع في مستوى ذكائه، لأنه إذا كان الاحتيال من السذاجة بحيث لا ينطلي على الرجل العادي، فإنه لا يكفي لوقوع جريمة الاحتيال. فيلزم أن يكون الاحتيال له حبكة أو قابل للتصديق بحيث يقع فيه الرجل ذو الذكاء المتوسط. وهذا يعني أن الجاني عادة رجل ذو ذكاء أعلى من المتوسط.
أما بالنسبة للمجني عليه في الاحتيال فهو ينتمي عادة إلى متوسطي الذكاء. فهو ليس منخفض الذكاء بشكل ملحوظ، لأن القانون لا يحمي المغفلين، ذلك أنه إذا كانت الوسائل الاحتيالية من الوضوح بحيث لا تنطلي إلاّ على السذج من الناس فلا تقع جريمة الاحتيال.
فهل هذا يعني أن المجني عليه في جريمة الاحتيال لا يمكن أن يكون من مرتفعي الذكاء ؟ في واقع الأمر ليس في القانون ما يمنع أن يكون المجني عليه في النصب من مرتفعي الذكاء وإن كان ينتمي في كثير من الأحيان إلى طبقة متوسطي الذكاء. وبالتالي فإنه لا يجوز دفع مسئولية بعض شركات توظيف الأموال عن جريمة النصب إذا كان الاحتيال الذي صدر منها قد أدى إلى وقوع كثير من المثقفين في حبائلها، بل وكثير من رجال القضاء أنفسهم.
- الاحتيال مضمونه الكذب :
لا يقوم الاحتيال إذا كانت الوقائع التي يذكرها الشخص والتي أدت إلى تسليم المال من شخص آخر وقائع صحيحة غير مكذوبة. وبناء عليه ذهبت محكمة النقض إلى أنه إذا كانت المحكمة قد اعتبرت ما وقع من المتهمين نصبا بناء على أنهما توصلا إلى الاستيلاء على المال من المجني عليها عن طريق إيهامها باحتمال مهاجمة اللصوص لها وسلب أموالها والاستعانة في ذلك بذكر حادث معين من حوادث السرقات التي وقعت في الجهة، وكانت قد قالت في حكمها ما يفيد أن الحادث المشار إليه وقع فعلا وأن المجني عليها كانت تعلم بوقوعه وقت أن ذكره المتهمان، فذلك لا تتوافر به الطرق الاحتيالية) ).
ويستوي بعد ذلك أن يكون الكذب شفويا أو مكتوبا. فإذا كان مكتوبا، فإنه يمكن أن يشكل جريمة التزوير مرتبطة بجريمة الاحتيال .
- التفرقة بين الاحتيال والتدليس المدني :
إذا كان الاحتيال إيقاعا للمتعاقد في غلط، فإن التدليس المدني أيضا إيقاع له في غلط. غير أن هناك عدة فوارق تميز بين الاحتيال والتدليس المدني، أهمها :
1- الاحتيال يشكل جريمة أي يؤدي إلى المساءلة الجنائية بينما لا يرتب التدليس إلاّ المسئولية المدنية في إبطال العقد.
2- التدليس المدني عيب من عيوب الإرادة بينما الاحتيال اعتداء على الملكية، بالإضافة إلى كونه عيبا من عيوب الإرادة. وعلى ذلك إذا كان الاحتيال لا يرمي إلى تملك شيء معين فهو من قبيل التدليس المدني وليس النصب. فمن استعمل وسائل احتيالية لإقناع امرأة أن تتزوجه، فإنه لا يرتكب جريمة الاحتيال، وإنما يجوز لها طلب إبطال العقد للتدليس.
3- تقوم التفرقة بصدد الاحتيال بين الاحتيال الذي يؤدي إلى تسليم المال وبين الاحتيال الذي كان يرمي إلى تسليم المال ولكنه أوقف أو خاب أثره لسبب لا دخل لإرادة الفاعل فيه. ففي الحالة الأولى تقوم جريمة النصب. وفي الحالة الثانية تقوم جريمة الشروع في الاحتيال. أما التدليس المدني فليس له إلاّ صورة واحدة وهي التي يؤدي فيها إلى التعاقد.
4 - الاحتيال كنشاط هو الذي يؤدي إلى تسليم مال منقول. أما إذا كان موضوعه عقارا أو تمكينا من منفعة فهو تدليس مدني وليس احتيالا جنائيا. غير أنه يلاحظ أن تسليم عقد العقار يعتبر تسليما لمنقول. فالمحرر الذي يحتوي على العقد هو منقول وتقوم جريمة النصب بالاستيلاء عليه بناء على الاحتيال.
ويلاحظ أنه إذا تحايل الفاعل على الورثة لإقناعهم أن مورثهم كان قد باع لهم عقارا بعقد ابتدائي وطب منهم أن يقوموا بتسجيله فوافقوا بناء على هذا الاحتيال، فإنه يمكن اعتبار ذلك نصبا طالما استولى الفاعل على عقد موثق بناء على هذا الاحتيال لأنه يعتبر عقدا جديدا مختلفا عن العقد الابتدائي. هذا مع العلم بان التوثيق هو تدخل لموظف رسمي على العقد الابتدائي الذي كان مع الفاعل .
5 - التدليس المدني يمكن أن يقع بالكتمان أي بالسلوك السلبي. فكما يقوم التدليس بسلوك إيجابي، فإنه يتوافر أيضا بسلوك سلبي. من أمثلة ذلك أن يمتنع المؤمن عليه من ذكر مرض خطير مصاب به في عقد التأمين. أما الاحتيال فهو دائما سلوك إيجابي. فإذا اعتقد المجني عليه أن شخصا ما له أهمية معينة أو مركز معين أو أنه وكيل عن شركة معينة، دون تدخل من الفاعل أو من الغير بناء على تواطؤ بينهما، فإن ذلك لا يُعد احتيالا ولا تقع به جريمة النصب. ولكن يُعد تدليسا مدنيا .
وقد أجازت المادة 186من قانون المعاملات المدنية الاتحادي صراحة أن يقوم التدليس بالسكوت عمدا عن واقعة إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة. فتنص المادة السابقة على أنه " يعتبر السكون عمدا عن واقعة أو ملابسة تغريرا إذا ثبت أن من غُرر به ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة ".
6 - التدليس المدني يتعلق عادة بخاصية في الشيء، كدرجة جودة سلعة من السلع أو موقع عقار من العقارات أو قابلية أرض للبناء أو عدم قابليتها ذلك. أما في حالة الاحتيال، فإن الكذب فيه يصل إلى درجة الإيهام بشيء موجود بينما هو غير موجود .
7 - بينما حدد المشرع في المادة 399 عقوبات اتحادي وسائل الاحتيال على سبيل الحصر ، فإن وسائل التدليس المدني غير محددة ، فهي كل وسيلة يرمي صاحبها إلى إيقاع المتعاقد في غلط .
8 - لا يشترط في التدليس أن يصل إلى درجة جسامة معينة. وآية ذلك أن التدليس يمكن أن يقوم بمجرد الكذب أو حتى بالامتناع ( ). أما الاحتيال فيشترط فيه أن ينطلي على الرجل متوسط الذكاء. فعلى حين لا يقوم الاحتيال إذا كان واضحا لا يقنع الرجل دون الذكاء المتوسط، فإن التدليس يقوم في جميع الحالات دون هذا الشرط .
ويلاحظ أن وصف وقائع معينة بأنها طرق احتيالية هي مسألة قانون. وبالتالي يجوز لمحكمة النقض أن تراجع محكمة الموضوع وتقرر أن الأمر يشكل تدليسا مدنيا وليس احتيالا جنائيا إذا اقتضى الأمر ( ).
- التفرقة بين الاحتيال وغيره من جرائم الأموال :
التمييز بين الاحتيال والسرقة :
يتفق الاحتيال والسرقة في أن كليهما جريمتان من جرائم الأموال المنقولة، وكلاهما يقعان اعتداء على الملكية وهما من الجرائم العمدية غير أن فروقا تبقى بينهما، هي :
1- في السرقة لا يوجد تسليم أصلا وأحيانا يوجد تسليم اليد العارضة
2- إن الفاعل في الاحتيال يحصل على المال من المجني عليه لنفسه أي أن المجني عليه يتخلى عن الحيازة الكاملة للفاعل وهو ما لا يتوافر بالنسبة للسرقة.
3- إن الاحتيال يقع اعتداء على الإرادة في التعاقد بالإضافة إلى الاعتداء على الملكية ، أما السرقة فتقع اعتداء على الحيازة بالإضافة إلى الملكية.
- الاحتيال وخيانة الأمانة :
تتفق جريمة الاحتيال وخيانة الأمانة في أن كليهما من جرائم الأموال المنقولة وتقعان اعتداء على الملكية وأنهما من الجرائم العمدية. هذا بالإضافة إلى أن هناك تسليما في الحالتين للمال من المجني عليه إلى الفاعل.
غير أن فروقا توجد بينهما هي :
1- لا يشترط في الاحتيال وجود عقد من عقود الأمانة ، بينما يلزم ذلك كشرط مسبق( مفترض) في جريمة خيانة الأمانة .
2 - الاحتيال اعتداء على الملكية والإرادة في التعاقد، أما خيانة الأمانة فاعتداء على الملكية والثقة.
3 - التسليم من المجني عليه في الاحتيال ناقل للحيازة الكاملة، أما في خيانة الأمانة فهو ناقل للحيازة الناقصة.
4 - لحظة وقوع الجريمة في الاحتيال هي عند التسليم. أما خيانة الأمانة فإنها لا تقوم إلاّ بعد التسليم عند الاختلاس أو التبديد.
5 - يعاقب على الشروع في الاحتيال ، أما في خيانة الأمانة فلا يتصور الشروع فيها .
الفصل الأول
الأركان العامة لجريمة الاحتيال
النشاط في جريمة الاحتيال هو الاحتيال، والنتيجة هي تسليم المنقول. ويلزم أن يكون الاحتيال هو الذي تسبب في تسليم المنقول، وهذا ما يُطلق عليه علاقة السببية .
المبحث الأول
الاحتيــــال
- المقصود بالاحتيال :
لم تضع المادة 399ع. أ. تعريفا للاحتيال ولكنها حددت مفهومه عن طريق تعداد وسائله المتمثلة في :
- الاستعانة بطريقة من الطرق الاحتيالية
- اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة
- التصرف في عقار أو منقول يعلم أنه غير مملوك له أو ليس له حق التصرف فيه
- التصرف للمرة الثانية فيما سبق أن تصرف فيه الفاعل
وعلى أية حال فإن الاحتيال جوهره الكذب، فلا يقوم الاحتيال لو كان المتهم يقول الصدق أو لم يكن فعله يوصف بالكذب؛ فمن يفتح حسابا في أحد البنوك لكي يستغل تلك الشيكات في التعامل مع الناس مع أنها بدون رصيد، مستوليا بذلك على سلع يشتريها باستعمال تلك الشيكات لا يوصف فعله بالكذب لمجرد أنه يستعمل شيكات بدون رصيد. لذلك قضت محكمة التمييز بدبي بأن مجرد فتح حساب في مصرف وإصدار شيكات وتقديمها كثمن لبضاعة دون أن يكون مصحوبا بطرق احتيالية لا يشكل الجريمة المنصوص عليها في المادة 399 عقوبات بالنسبة للمستفيد من الشيكات( ). فحتى لو أكد المتهم أن الشيك له رصيد ، فإن ذلك لا يعدو أن يكون نوعا من الكذب العاري الذي لا يكفي للقول بتوافر الاحتيال.
- تعداد الطرق الاحتيالية على سبيل الحصر :
جاء تعداد الطرق الاحتيالية على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال وبالتالي فإنه يتعين على الحكم الصادر بالإدانة عن جريمة النصب أن يبين الطريقة الاحتيالية التي استعان بها المتهم في استيلائه على أموال الغير، وإلاّ كان حكمها قاصرا في تسبيبه متعينا النقض ( ).
- قاعدة عدم تجريم الكذب العاري :
صحيح أن الاحتيال كذب ولكنه كذب مؤيد أي ليس مجرد كذب فيلزم أن يتخذ الكذب صورة من الصور التي نصت عليها المادة 336عقوبات.
فالأصل أن قانون العقوبات لا يعاقب على الكذب العاري وهذا ما يميزه عن قواعد الأخلاق. فالكذب العاري لا يُعد احتيالا في النصب، ذلك أنه يلزم أن يبذل المجني عليه حدا أدنى من الحرص. فإذا فرّط في حق نفسه، فلا يحميه قانون العقوبات عندئذ. تطبيقا لذلك قضت محكمة تمييز دبي بأنه في جريمة الاحتيال "لا يكفي لقيام الوسائل الاحتيالية فيها مجرد الأقوال والادعاءات الكاذبة وأنه يجب أن يكون الكذب مصحوبا بأعمال مادية أو مظاهر خارجية تحمل المجني عليه على الاعتقاد بصحته وأن يسلم ماله نتيجة لهذا الاعتقاد "( ). تطبيقا لذلك قضت المحكمة بأنه إذا استولى المتهم من المجني عليه على أموال بزعم استثمارها في البورصات دون توافر طريقة احتيالية معينة، فإن جريمة الاحتيال لا تتوافر( ). وقضت محكمة استئناف ابو ظبي بأن النصب لا يقع إذا اكتفى المتهم بأن أوهم المجني عليه بأنه يضارب بالأموال في إحدى الشركات وأنه بذلك يحقق أرباحا على غير الحقيقة فصدقه المجني عليه وسلمه أمواله لهذا الغرض فتسبب في خسارة كبيرة له( ). كما قُضي بأنه إذا كان المجني عليه في تهمة نصب هو من رجال الدين وقد دفع المبلغ للمتهم على أن يقدمه رشوة لموظف لتأدية عمل، فإن استيلاء المتهم على هذا المبلغ لا يعتبر جريمة معاقبا عليها، طالما أن ما بدر من الفاعل هو كذب عاري عن استخدام أية وسيلة احتيالية. وبالتالي لا يقوم الاحتيال وخاصة أن المجني عليه من رجال الدين المفروض فيهم أنهم يعلمون أن الرشوة حرام وبالتالي فإن المجني عليه قد تساهل في حق نفسه بتصديقه كذبا عاريا من شخص غير موظف وبدفعه مبلغا لرشوته( ).
وإذا كان الكذب العاري يصلح أن يكون تدليسا مدنيا، فإنه بهذه الصفة يجيز إبطال العقد، ولكنه لا يرتب المسئولية الجنائية بحسب الأصل.
- الاستثناءات على قاعدة عدم تجريم الكذب العاري :
على الرغم من الأصل هو عدم تجريم الكذب العاري ، فإنه يجوز أن يُعد ذلك احتيالا تقع به جريمة النصب في حالات هي :
1 - استثناءات تشريعية :
أجازت المادة 399 ع. أ. أن يقوم الاحتيال دون أن يقترن بوسائل احتيالية في حالة التصرف في ملك الغير وفي حالة ادعاء اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، وذلك بالإضافة إلى التصرف للمرة الثانية فيما يملكه الفاعل نفسه.
2 - استثناءات قضائية :
اعتبر القضاء أن بعضا من الكذب يرقى إلى الوسائل الاحتيالية نظرا للظروف التي تحيط بهذا الكذب ، منها :
أ - إساءة استعمال الصفة :
إذا كان المتهم ذا صفة معينة تحمل المجني عليه على تصديقه نظرا لما تبعثه من ثقة أو مصداقية، فإن القضاء يعتبر الكذب العاري منه احتيالا تقع به جريمة النصب وليس كذبا مجردا من أي مظهر على ما سيلي بيانه.
ب - النشر :
يتجه القضاء إلى اعتبار النشر في حد ذاته من الوسائل الاحتيالية حتى لو اقتصر الأمر على ترديد مزاعم المجني عليه( )، وذلك نظرا للثقة التي يبعثها النشر في الصحف في نفوس عامة الناس( ). وقد قُضي بوقوع جريمة الاحتيال نظرا إلى الطريقة التي اتبعها المتهم للوصول إلى اكتساب ثقة الجمهور من خلال حملة دعائية لشركة تغري الجمهور بالمكسب الكبير الذي ينتظرهم وذلك بأن تخيّر أكبر جريدتين يوميتين استقر اسم إحداهما في ذهن الجمهور مقترنا بالصدق والتعقل وهي جريدة الأهرام( ).ويتجه القضاء الفرنسي أيضا إلى اعتبار النشر من الوسائل الاحتيالية( ) .
جـ - حالة الالتزام بالصدق :
إذا كان المشرع يلقى واجبا بالصدق على بعض الأشخاص، فإن ذلك يقابله عادة مصداقية في أقواله أو ما يقدمه من أوراق قام هو بكتابتها، وأحيانا يترتب عليها صرف مبالغ مالية ، عندئذ يظهر فرض الاحتيال.
تطبيقا لذلك قُضي في فرنسا بوقوع جريمة الاحتيال من الطبيب الذي يقدم بيانات كاذبة عن زيارات منزلية قام بها للكشف عن المرضى وقام بناء على ذلك بصرف مبالغ من جهة التأمينات الاجتماعية( ).
ومن أمثلة قيام واجب الصدق حالة تحرير ميزانية الشركات. فالميزانية أداة الشركة لإظهار موقفها المالي أمام الغير. ونظرا للثقة المنبعثة منها، فإن إعداد ميزانية كاذبة يُعتبر كافيا لوقوع الوسائل الاحتيالية وقيام الجريمة إذا ترتب عليها تسليم أموال. ويعتبر الاكتتاب في الشركات من قبيل تسليم الأموال في جريمة الاحتيال إذا تمّ ذلك الاكتتاب باتباع الكذب في حساب الأرباح والخسائر أو الميزانية التي تم نشرها في الصحف العامة .
وجدير بالذكر أن مراجعي الحسابات يتدخلون عادة بإقرارهم أن الميزانية صادقة وأنها تعبر عن المركز المالي للشركة في تاريخ معين. هذا الإقرار يعتبر من الوسائل الاحتيالية إذا كان كاذبا باعتباره تدخلا من الغير وفقا للقواعد العامة.
وقد كانت الاستثناءات التشريعية التي أجازت فيها المادة 336عقوبات أن يقوم الاحتيال بناء على مجرد الكذب، سببا في وجود نوعين من الاحتيال : الاحتيال بالمعنى الدقيق وما يُعد احتيالا حكما.
نعرض في هذا الباب القواعد العامة التي تخضع لها فكرة الاحتيال في قانون العقوبات ثم نتبع ذلك بتفصيل الأركان العامة لجريمة الاحتيال في الفصل الأول ونبين العقاب عن الاحتيال في الفصل الثاني،على ما سيلي بيابنه.
مبحث تمهيدي
القواعد العامة التي تخضع لها
فكرة الاحتيال
- مفهوم الاحتيال :
لم يستخدم المشرع تعبير " النصب " في المادة 399 ع. أ. بدلا من ذلك استخدمت المادة السابقة تعبير "الاحتيال"، ليؤدي نفس مفهوم النصب، بقولها" كل من توصل إلى الاستيلاء لنفسه أو لغيره على مال منقول أو سند أو توقيع هذا السند أو إلى إلغائه أو إتلافه أو تعديله وذلك بالاستعانة بطريقة احتيالية أو .... ". من هذا يبين أن جريمة الاحتيال أو النصب هي" الاستيلاء على مال منقول مملوك للغير بنية تملكه بطريقة بوسيلة احتيالية ".
- المجني عليه في جريمة الاحتيال :
يحمي تجريم الاحتيال مصلحتين" الأولى هي الملكية، والثانية هي الإرادة في التعاقد. فالاحتيال يقع اعتداء على ملكية المجني عليه حيث يلزم لوقوع الجريمة نية التملك لدى الفاعل. فإذا احتال شخص على آخر ليستعير منه كتابا أو ماكينة ري لمدة مؤقتة يردها بعد ذلك، لا يرتكب جريمة الاحتيال .
وإذا كان المال محل الجريمة في حيازة غير المالك واستطاع الفاعل أن يحتال عليه ليتحصل على ذلك المال، فإن الجريمة تقع اعتداء على مالك المنقول. كما أن حائزه يعتبر مضرورا مباشرة من الجريمة ويستطيع الادعاء مدنيا أمام القضاء الجنائي .
أما في حالة بيع ملك الغير كوسيلة من الوسائل الاحتيالية ، فإن صاحب العقار محل البيع ليس مجنيا عليه في النصب لأنه من الغير بالنسبة للبيع الذي لم يكن طرفا فيه كما أنه ليس مضرورا مباشرا من الجريمة، لأنه إذا حاول المشتري أن يستولي على العقار، فإن ما يحدث لصاحب العقار من أضرار سواء من جراء الاستيلاء على العقار أم بسبب اعتداء المشتري أو البائع عليه ليس مرتبطا بعلاقة مباشرة بالجريمة، لأنه ناتج من عمل منفصل عنها إذ، إنه لاحق على وقوعها. وبالتالي لا اختصاص للمحكمة الجزائية بنظر دعواه المدنية.
وإذا كان المال محل البيع منقولا ولم يكن في حيازة الفاعل، فإن القواعد السابقة تسري أيضا، ذلك أن صاحب المنقول من الغير. أما إذا كان المال المنقول في حوزة الفاعل، فإن صاحب المنقول مجني عليه أيضا من الجريمة ومضرور بصفة مباشرة منها .
وبالإضافة إلى حماية الملكية ، فإن القانون يحمي الإرادة من أن تقع محلا لوسائل احتيالية في التعاقد. وهنا يختلف الاحتيال في النصب عن التدليس المدني على ما سيلي.
ويلاحظ أنه لا يحول دون وقوع جريمة الاحتيال أن يرتكب المجني عليه خطأ مهما بلغت جسامته حتى ولو كان التعاقد بين المتهم والمجني عليه الذي سلم المال بمناسبته يرمي إلى ارتكاب جريمة. فإذا احتال شخص على امرأة وأقنعها بأنه مالك لشقة وأنه يوافق على تأجيرها لأعمال الدعارة وحصل منها على مبلغ نقدي، فإن جريمة النصب تقوم رغم ذلك. وكذلك الحال إذا دفع المجني عليه مبلغا من المال لرشوة شخص اتضح أنه ليس موظفا عاما.
- خصائص الجاني والمجني عليه في الاحتيال :
يتميز الجاني في جريمة الاحتيال بارتفاع في مستوى ذكائه، لأنه إذا كان الاحتيال من السذاجة بحيث لا ينطلي على الرجل العادي، فإنه لا يكفي لوقوع جريمة الاحتيال. فيلزم أن يكون الاحتيال له حبكة أو قابل للتصديق بحيث يقع فيه الرجل ذو الذكاء المتوسط. وهذا يعني أن الجاني عادة رجل ذو ذكاء أعلى من المتوسط.
أما بالنسبة للمجني عليه في الاحتيال فهو ينتمي عادة إلى متوسطي الذكاء. فهو ليس منخفض الذكاء بشكل ملحوظ، لأن القانون لا يحمي المغفلين، ذلك أنه إذا كانت الوسائل الاحتيالية من الوضوح بحيث لا تنطلي إلاّ على السذج من الناس فلا تقع جريمة الاحتيال.
فهل هذا يعني أن المجني عليه في جريمة الاحتيال لا يمكن أن يكون من مرتفعي الذكاء ؟ في واقع الأمر ليس في القانون ما يمنع أن يكون المجني عليه في النصب من مرتفعي الذكاء وإن كان ينتمي في كثير من الأحيان إلى طبقة متوسطي الذكاء. وبالتالي فإنه لا يجوز دفع مسئولية بعض شركات توظيف الأموال عن جريمة النصب إذا كان الاحتيال الذي صدر منها قد أدى إلى وقوع كثير من المثقفين في حبائلها، بل وكثير من رجال القضاء أنفسهم.
- الاحتيال مضمونه الكذب :
لا يقوم الاحتيال إذا كانت الوقائع التي يذكرها الشخص والتي أدت إلى تسليم المال من شخص آخر وقائع صحيحة غير مكذوبة. وبناء عليه ذهبت محكمة النقض إلى أنه إذا كانت المحكمة قد اعتبرت ما وقع من المتهمين نصبا بناء على أنهما توصلا إلى الاستيلاء على المال من المجني عليها عن طريق إيهامها باحتمال مهاجمة اللصوص لها وسلب أموالها والاستعانة في ذلك بذكر حادث معين من حوادث السرقات التي وقعت في الجهة، وكانت قد قالت في حكمها ما يفيد أن الحادث المشار إليه وقع فعلا وأن المجني عليها كانت تعلم بوقوعه وقت أن ذكره المتهمان، فذلك لا تتوافر به الطرق الاحتيالية) ).
ويستوي بعد ذلك أن يكون الكذب شفويا أو مكتوبا. فإذا كان مكتوبا، فإنه يمكن أن يشكل جريمة التزوير مرتبطة بجريمة الاحتيال .
- التفرقة بين الاحتيال والتدليس المدني :
إذا كان الاحتيال إيقاعا للمتعاقد في غلط، فإن التدليس المدني أيضا إيقاع له في غلط. غير أن هناك عدة فوارق تميز بين الاحتيال والتدليس المدني، أهمها :
1- الاحتيال يشكل جريمة أي يؤدي إلى المساءلة الجنائية بينما لا يرتب التدليس إلاّ المسئولية المدنية في إبطال العقد.
2- التدليس المدني عيب من عيوب الإرادة بينما الاحتيال اعتداء على الملكية، بالإضافة إلى كونه عيبا من عيوب الإرادة. وعلى ذلك إذا كان الاحتيال لا يرمي إلى تملك شيء معين فهو من قبيل التدليس المدني وليس النصب. فمن استعمل وسائل احتيالية لإقناع امرأة أن تتزوجه، فإنه لا يرتكب جريمة الاحتيال، وإنما يجوز لها طلب إبطال العقد للتدليس.
3- تقوم التفرقة بصدد الاحتيال بين الاحتيال الذي يؤدي إلى تسليم المال وبين الاحتيال الذي كان يرمي إلى تسليم المال ولكنه أوقف أو خاب أثره لسبب لا دخل لإرادة الفاعل فيه. ففي الحالة الأولى تقوم جريمة النصب. وفي الحالة الثانية تقوم جريمة الشروع في الاحتيال. أما التدليس المدني فليس له إلاّ صورة واحدة وهي التي يؤدي فيها إلى التعاقد.
4 - الاحتيال كنشاط هو الذي يؤدي إلى تسليم مال منقول. أما إذا كان موضوعه عقارا أو تمكينا من منفعة فهو تدليس مدني وليس احتيالا جنائيا. غير أنه يلاحظ أن تسليم عقد العقار يعتبر تسليما لمنقول. فالمحرر الذي يحتوي على العقد هو منقول وتقوم جريمة النصب بالاستيلاء عليه بناء على الاحتيال.
ويلاحظ أنه إذا تحايل الفاعل على الورثة لإقناعهم أن مورثهم كان قد باع لهم عقارا بعقد ابتدائي وطب منهم أن يقوموا بتسجيله فوافقوا بناء على هذا الاحتيال، فإنه يمكن اعتبار ذلك نصبا طالما استولى الفاعل على عقد موثق بناء على هذا الاحتيال لأنه يعتبر عقدا جديدا مختلفا عن العقد الابتدائي. هذا مع العلم بان التوثيق هو تدخل لموظف رسمي على العقد الابتدائي الذي كان مع الفاعل .
5 - التدليس المدني يمكن أن يقع بالكتمان أي بالسلوك السلبي. فكما يقوم التدليس بسلوك إيجابي، فإنه يتوافر أيضا بسلوك سلبي. من أمثلة ذلك أن يمتنع المؤمن عليه من ذكر مرض خطير مصاب به في عقد التأمين. أما الاحتيال فهو دائما سلوك إيجابي. فإذا اعتقد المجني عليه أن شخصا ما له أهمية معينة أو مركز معين أو أنه وكيل عن شركة معينة، دون تدخل من الفاعل أو من الغير بناء على تواطؤ بينهما، فإن ذلك لا يُعد احتيالا ولا تقع به جريمة النصب. ولكن يُعد تدليسا مدنيا .
وقد أجازت المادة 186من قانون المعاملات المدنية الاتحادي صراحة أن يقوم التدليس بالسكوت عمدا عن واقعة إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة. فتنص المادة السابقة على أنه " يعتبر السكون عمدا عن واقعة أو ملابسة تغريرا إذا ثبت أن من غُرر به ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة ".
6 - التدليس المدني يتعلق عادة بخاصية في الشيء، كدرجة جودة سلعة من السلع أو موقع عقار من العقارات أو قابلية أرض للبناء أو عدم قابليتها ذلك. أما في حالة الاحتيال، فإن الكذب فيه يصل إلى درجة الإيهام بشيء موجود بينما هو غير موجود .
7 - بينما حدد المشرع في المادة 399 عقوبات اتحادي وسائل الاحتيال على سبيل الحصر ، فإن وسائل التدليس المدني غير محددة ، فهي كل وسيلة يرمي صاحبها إلى إيقاع المتعاقد في غلط .
8 - لا يشترط في التدليس أن يصل إلى درجة جسامة معينة. وآية ذلك أن التدليس يمكن أن يقوم بمجرد الكذب أو حتى بالامتناع ( ). أما الاحتيال فيشترط فيه أن ينطلي على الرجل متوسط الذكاء. فعلى حين لا يقوم الاحتيال إذا كان واضحا لا يقنع الرجل دون الذكاء المتوسط، فإن التدليس يقوم في جميع الحالات دون هذا الشرط .
ويلاحظ أن وصف وقائع معينة بأنها طرق احتيالية هي مسألة قانون. وبالتالي يجوز لمحكمة النقض أن تراجع محكمة الموضوع وتقرر أن الأمر يشكل تدليسا مدنيا وليس احتيالا جنائيا إذا اقتضى الأمر ( ).
- التفرقة بين الاحتيال وغيره من جرائم الأموال :
التمييز بين الاحتيال والسرقة :
يتفق الاحتيال والسرقة في أن كليهما جريمتان من جرائم الأموال المنقولة، وكلاهما يقعان اعتداء على الملكية وهما من الجرائم العمدية غير أن فروقا تبقى بينهما، هي :
1- في السرقة لا يوجد تسليم أصلا وأحيانا يوجد تسليم اليد العارضة
2- إن الفاعل في الاحتيال يحصل على المال من المجني عليه لنفسه أي أن المجني عليه يتخلى عن الحيازة الكاملة للفاعل وهو ما لا يتوافر بالنسبة للسرقة.
3- إن الاحتيال يقع اعتداء على الإرادة في التعاقد بالإضافة إلى الاعتداء على الملكية ، أما السرقة فتقع اعتداء على الحيازة بالإضافة إلى الملكية.
- الاحتيال وخيانة الأمانة :
تتفق جريمة الاحتيال وخيانة الأمانة في أن كليهما من جرائم الأموال المنقولة وتقعان اعتداء على الملكية وأنهما من الجرائم العمدية. هذا بالإضافة إلى أن هناك تسليما في الحالتين للمال من المجني عليه إلى الفاعل.
غير أن فروقا توجد بينهما هي :
1- لا يشترط في الاحتيال وجود عقد من عقود الأمانة ، بينما يلزم ذلك كشرط مسبق( مفترض) في جريمة خيانة الأمانة .
2 - الاحتيال اعتداء على الملكية والإرادة في التعاقد، أما خيانة الأمانة فاعتداء على الملكية والثقة.
3 - التسليم من المجني عليه في الاحتيال ناقل للحيازة الكاملة، أما في خيانة الأمانة فهو ناقل للحيازة الناقصة.
4 - لحظة وقوع الجريمة في الاحتيال هي عند التسليم. أما خيانة الأمانة فإنها لا تقوم إلاّ بعد التسليم عند الاختلاس أو التبديد.
5 - يعاقب على الشروع في الاحتيال ، أما في خيانة الأمانة فلا يتصور الشروع فيها .
الفصل الأول
الأركان العامة لجريمة الاحتيال
النشاط في جريمة الاحتيال هو الاحتيال، والنتيجة هي تسليم المنقول. ويلزم أن يكون الاحتيال هو الذي تسبب في تسليم المنقول، وهذا ما يُطلق عليه علاقة السببية .
المبحث الأول
الاحتيــــال
- المقصود بالاحتيال :
لم تضع المادة 399ع. أ. تعريفا للاحتيال ولكنها حددت مفهومه عن طريق تعداد وسائله المتمثلة في :
- الاستعانة بطريقة من الطرق الاحتيالية
- اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة
- التصرف في عقار أو منقول يعلم أنه غير مملوك له أو ليس له حق التصرف فيه
- التصرف للمرة الثانية فيما سبق أن تصرف فيه الفاعل
وعلى أية حال فإن الاحتيال جوهره الكذب، فلا يقوم الاحتيال لو كان المتهم يقول الصدق أو لم يكن فعله يوصف بالكذب؛ فمن يفتح حسابا في أحد البنوك لكي يستغل تلك الشيكات في التعامل مع الناس مع أنها بدون رصيد، مستوليا بذلك على سلع يشتريها باستعمال تلك الشيكات لا يوصف فعله بالكذب لمجرد أنه يستعمل شيكات بدون رصيد. لذلك قضت محكمة التمييز بدبي بأن مجرد فتح حساب في مصرف وإصدار شيكات وتقديمها كثمن لبضاعة دون أن يكون مصحوبا بطرق احتيالية لا يشكل الجريمة المنصوص عليها في المادة 399 عقوبات بالنسبة للمستفيد من الشيكات( ). فحتى لو أكد المتهم أن الشيك له رصيد ، فإن ذلك لا يعدو أن يكون نوعا من الكذب العاري الذي لا يكفي للقول بتوافر الاحتيال.
- تعداد الطرق الاحتيالية على سبيل الحصر :
جاء تعداد الطرق الاحتيالية على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال وبالتالي فإنه يتعين على الحكم الصادر بالإدانة عن جريمة النصب أن يبين الطريقة الاحتيالية التي استعان بها المتهم في استيلائه على أموال الغير، وإلاّ كان حكمها قاصرا في تسبيبه متعينا النقض ( ).
- قاعدة عدم تجريم الكذب العاري :
صحيح أن الاحتيال كذب ولكنه كذب مؤيد أي ليس مجرد كذب فيلزم أن يتخذ الكذب صورة من الصور التي نصت عليها المادة 336عقوبات.
فالأصل أن قانون العقوبات لا يعاقب على الكذب العاري وهذا ما يميزه عن قواعد الأخلاق. فالكذب العاري لا يُعد احتيالا في النصب، ذلك أنه يلزم أن يبذل المجني عليه حدا أدنى من الحرص. فإذا فرّط في حق نفسه، فلا يحميه قانون العقوبات عندئذ. تطبيقا لذلك قضت محكمة تمييز دبي بأنه في جريمة الاحتيال "لا يكفي لقيام الوسائل الاحتيالية فيها مجرد الأقوال والادعاءات الكاذبة وأنه يجب أن يكون الكذب مصحوبا بأعمال مادية أو مظاهر خارجية تحمل المجني عليه على الاعتقاد بصحته وأن يسلم ماله نتيجة لهذا الاعتقاد "( ). تطبيقا لذلك قضت المحكمة بأنه إذا استولى المتهم من المجني عليه على أموال بزعم استثمارها في البورصات دون توافر طريقة احتيالية معينة، فإن جريمة الاحتيال لا تتوافر( ). وقضت محكمة استئناف ابو ظبي بأن النصب لا يقع إذا اكتفى المتهم بأن أوهم المجني عليه بأنه يضارب بالأموال في إحدى الشركات وأنه بذلك يحقق أرباحا على غير الحقيقة فصدقه المجني عليه وسلمه أمواله لهذا الغرض فتسبب في خسارة كبيرة له( ). كما قُضي بأنه إذا كان المجني عليه في تهمة نصب هو من رجال الدين وقد دفع المبلغ للمتهم على أن يقدمه رشوة لموظف لتأدية عمل، فإن استيلاء المتهم على هذا المبلغ لا يعتبر جريمة معاقبا عليها، طالما أن ما بدر من الفاعل هو كذب عاري عن استخدام أية وسيلة احتيالية. وبالتالي لا يقوم الاحتيال وخاصة أن المجني عليه من رجال الدين المفروض فيهم أنهم يعلمون أن الرشوة حرام وبالتالي فإن المجني عليه قد تساهل في حق نفسه بتصديقه كذبا عاريا من شخص غير موظف وبدفعه مبلغا لرشوته( ).
وإذا كان الكذب العاري يصلح أن يكون تدليسا مدنيا، فإنه بهذه الصفة يجيز إبطال العقد، ولكنه لا يرتب المسئولية الجنائية بحسب الأصل.
- الاستثناءات على قاعدة عدم تجريم الكذب العاري :
على الرغم من الأصل هو عدم تجريم الكذب العاري ، فإنه يجوز أن يُعد ذلك احتيالا تقع به جريمة النصب في حالات هي :
1 - استثناءات تشريعية :
أجازت المادة 399 ع. أ. أن يقوم الاحتيال دون أن يقترن بوسائل احتيالية في حالة التصرف في ملك الغير وفي حالة ادعاء اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، وذلك بالإضافة إلى التصرف للمرة الثانية فيما يملكه الفاعل نفسه.
2 - استثناءات قضائية :
اعتبر القضاء أن بعضا من الكذب يرقى إلى الوسائل الاحتيالية نظرا للظروف التي تحيط بهذا الكذب ، منها :
أ - إساءة استعمال الصفة :
إذا كان المتهم ذا صفة معينة تحمل المجني عليه على تصديقه نظرا لما تبعثه من ثقة أو مصداقية، فإن القضاء يعتبر الكذب العاري منه احتيالا تقع به جريمة النصب وليس كذبا مجردا من أي مظهر على ما سيلي بيانه.
ب - النشر :
يتجه القضاء إلى اعتبار النشر في حد ذاته من الوسائل الاحتيالية حتى لو اقتصر الأمر على ترديد مزاعم المجني عليه( )، وذلك نظرا للثقة التي يبعثها النشر في الصحف في نفوس عامة الناس( ). وقد قُضي بوقوع جريمة الاحتيال نظرا إلى الطريقة التي اتبعها المتهم للوصول إلى اكتساب ثقة الجمهور من خلال حملة دعائية لشركة تغري الجمهور بالمكسب الكبير الذي ينتظرهم وذلك بأن تخيّر أكبر جريدتين يوميتين استقر اسم إحداهما في ذهن الجمهور مقترنا بالصدق والتعقل وهي جريدة الأهرام( ).ويتجه القضاء الفرنسي أيضا إلى اعتبار النشر من الوسائل الاحتيالية( ) .
جـ - حالة الالتزام بالصدق :
إذا كان المشرع يلقى واجبا بالصدق على بعض الأشخاص، فإن ذلك يقابله عادة مصداقية في أقواله أو ما يقدمه من أوراق قام هو بكتابتها، وأحيانا يترتب عليها صرف مبالغ مالية ، عندئذ يظهر فرض الاحتيال.
تطبيقا لذلك قُضي في فرنسا بوقوع جريمة الاحتيال من الطبيب الذي يقدم بيانات كاذبة عن زيارات منزلية قام بها للكشف عن المرضى وقام بناء على ذلك بصرف مبالغ من جهة التأمينات الاجتماعية( ).
ومن أمثلة قيام واجب الصدق حالة تحرير ميزانية الشركات. فالميزانية أداة الشركة لإظهار موقفها المالي أمام الغير. ونظرا للثقة المنبعثة منها، فإن إعداد ميزانية كاذبة يُعتبر كافيا لوقوع الوسائل الاحتيالية وقيام الجريمة إذا ترتب عليها تسليم أموال. ويعتبر الاكتتاب في الشركات من قبيل تسليم الأموال في جريمة الاحتيال إذا تمّ ذلك الاكتتاب باتباع الكذب في حساب الأرباح والخسائر أو الميزانية التي تم نشرها في الصحف العامة .
وجدير بالذكر أن مراجعي الحسابات يتدخلون عادة بإقرارهم أن الميزانية صادقة وأنها تعبر عن المركز المالي للشركة في تاريخ معين. هذا الإقرار يعتبر من الوسائل الاحتيالية إذا كان كاذبا باعتباره تدخلا من الغير وفقا للقواعد العامة.
وقد كانت الاستثناءات التشريعية التي أجازت فيها المادة 336عقوبات أن يقوم الاحتيال بناء على مجرد الكذب، سببا في وجود نوعين من الاحتيال : الاحتيال بالمعنى الدقيق وما يُعد احتيالا حكما.