خصص المشرع الاتحادي الكتاب الثاني من قانون العقوبات الاتحادي لنصوص القسم الخاص، وقد قسم إلى ثمانية أبواب استناداً إلى المصلحة القانونية أو الحق محل الحماية الجنائية، والذي يكون محلاً للاعتداء بارتكاب الجريمة.
ومن هذا المنطلق جاء الباب السابع من الكتاب الثاني متضمناً مجموعة الجرائم الواقعة على الأشخاص وذلك في المواد من 331 إلى 380 عقوبات اتحادي
وتعد جرائم الاعتداء على الأشخاص من أكثر الجرائم أهمية ووقوعاً في العمل، ويقصد بها تلك المجموعة من الجرائم التي تقع اعتداء على جوانب الشخصية الإنسانية، ومن ثم فهي تستهدف إما المساس بشخصية الإنسان الطبيعية أو العضوية، فتمس حقه في الحياة، أو سلامته البدنية، أو عرضه أو حريته (جرائم القتل، الإيذاء البدني، العرض كالاغتصاب واللواط، وجرائم الحرية كالخطف والقبض). وأما أنها تستهدف المساس بشخصية الإنسان المعنوية، أي بقيمة الإنسان الاعتبارية كجرائم الشرف والاعتبار (ومنها جرائم القذف والسب وإفشاء الأسرار).
وقد جاءت جرائم الاعتداء على الأشخاص في قانون العقوبات الاتحادي على النحو المتقدم، لتوفر الحماية اللازمة لمقومات شخصية الإنسان المادية والمعنوية، فمنها ما يصيب الإنسان في حياته كالقتل (المادة 332 وما بعدها)، ومنها ما يصيبه في صحته وسلامة بدنه كالايذاء البدني (المادة 336 وما بعدها) ومنها ما يصيبه في حريته كالخطف والقبض (المادة 334 وما بعدها) ومنها ما يصيبه في عرضه كالاغتصاب وهتك العرض والفعل الفاضح (المادة (354 وما بعدها) ومنها ما يصيبه في سمعته وشرفه كالقذف والسب وإفضاء الأسرار (المادة 371 وما بعدها).
وسوف نتناول في القسم الأول من هذا الؤلف أهم الجرائم التي تقع اعتداء على الأشخاص وهي جرائم القتل والإيذاء البدني، من خلال بابين، يخصص الأول لجرائم القتل بينما يخصص الثاني لجرائم الاعتداء على السلامة البدنية.
الباب الأول
جرائـــم القتـــل
تمهيد وتقسيم :
الثابت أن القتل هو إزهاق روح إنسان آخر دون وجه حق. وتكمن علة تجريم فعل القتل في حماية حق الإنسان في الوجود، وبالتالي حق المجتمع ذاته في الاستمرار والبقاء، لأن وجود المجتمع مرتبط بحماية وجود أفراده .
وتعد جريمة القتل من أقدم الجرائم وأبشعها في جميع الشرائع ومنها الشريعة الإسلامية التي نهت عن القتل العمد، واعتبرته من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم لقوله تعالى "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقـد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً"( )، وقوله تعالى "والذين لايدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولايزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما " ( ) .
ويقسم أغلب الفقه الجنائي الإسلامي القتل إلى ثلاثة أقسام ( ): عمد، شبه عمد وخطأ .
1- القتل العمد وهو أن يتعمد الجاني الفعل المزهق قاصداً إزهاق روح المجني عليه ، وصورته أن يتعمد الجاني قتل النفس بما يقطع بحده كالحديد أو مايقتل بثقله كالحجارة ، ويعاقب عليه بالقتل إلا أن يعفو ولي الدم مقابل الدية أو بدون مقابل .
2- القتل شبة العمد وهو ماتعمد فيه الجاني الاعتداء على المجني عليه دون أن يقصد قتله ، ونتج عن الاعتداء موت المجني عليه . وتسمى هذه الصورة في القانون الوضعي الاعتداء على سلامة الجسم المفضي إلى الموت ، ومثاله أن يضرب معلم صبياً بمعهود فتلف ، فلا قود عليه في هذا القتل ، وفيه الدية على العاقلة مغلظة ، وتغليظها في الذهب والورق أن يزداد عليها ثلثها ، وفي الإبل أن تكون أثلاثاً منها ثلاثون حقة وثلاثون جدعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها .
3- القتل الخطأ وفيه يتسبب الجاني في القتل من غير قصد أي نتيجة خطأ ، كرجل رمى هدفاً فأمات إنساناً ، أو وضع حجراً فعثر به إنسان فمات، فهذا القتل يوجب الدية دون القود وتكون على عاقلة الجاني مؤجلة ثلاث سنين من حين موت القتيل .
ولقد حرصت التشريعات الجنائية على اختلاف مشاربها على حماية حق الإنسان في الحياة، وعموماً يعرف القتل بأنه إزهاق روح إنسان بفعل إنسان آخر دون حق عمداً أو عن خطأ ( ) . وسوف نتولى دراسة جرائم القتل في ثلاثة فصول متتابعة ، نخصص الفصل الأول لدراسة الأحكام العامة لجرائم القتل ، ونتناول في الفصل الثاني الأحكام الخاصة بالقتل العمدي ، أما الفصل الثالث فنخصصه لدراسة أحكام القتل غير العمدي .
الفصل الأول
الأحكام العامة لجرائم القتل
نتناول في هذا الفصل دراسة الأحكام العامة لجرائم القتل أيا كانت صورة الركن المعنوي فيها، وعليه ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين ، يخصص الأول لدراسة محل جريمة القتل ، والثاني لدراسة السلوك الإجرامي والنتيجة المترتبة عليه المتمثلة في الوفاة ، ثم علاقة السببية بين الفعل والنتيجة .
المبحث الأول
محل جريمة القتل
نتعرض في هذا المبحث لتحديد محل جريمة القتل، ثم لمسألة بداية الحياة ونهايتها، ونتناول أخيراً المشاكل التي يثيرها محل القتل وتحديداً مشكلة القتل إشفاقاً، ثـم الانتحار، وذلك كله من خلال ثلاثة مطالب متتالية وفق الآتي:
المطلب الأول
تحديد محل جريمة القتل
يقصد بمحل جريمة القتل تلك المصلحة التي يرمي القانون إلى حمايتها بالجزاء الجنائي وتقوم الجريمة بتحقق الاعتداء عليها ، وتتمثل هذه المصلحة في جريمة القتل في حماية حق الإنسان في الحياة ( ). فالاعتداء في جرائم القتل يستهدف إذن الإنسان الحي، فلا تقع جريمة القتل إلا إذا كان المجني عليه إنساناً حياً، وقد عبر المشرع الاتحادي على ذلك في المادة 332/1 عقوبات بقوله "من قتل نفسا..... " وينصرف لفظ النفس إلى الإنسان دون غيره. ويترتب على ذلك عدم وقوع جريمة القتل إذا كان محل الاعتداء حيواناً، وإن شكل هذا الفعل جريمة أخرى هي جريمة قتل حيوان دون مقتضي التي نص عليها المشرع الاتحادي في المادة 426/1 عقوبات في باب " إتلااف المال والتعدي على الحيوان "أي أن المشرع اعتبره عدواناً على مال يملكه الغير، فمحل الحماية الجنائية هو حق الملكية وليس حق الحيوان في الحياة .
ولا يتطلب القانون في الإنسان سوى أن يكون حياً بصرف النظر عن جنسيته أو لونه أو دينه أو مركزه الاجتماعي أو الوظيفي أو جنسه، لأن الناس متكافئون في قدر الحماية الجنائية لأرواحهم . فيستوي في نظر القانون بعد أن يكون الإنسان حياً أن يكون وطنياً أو أجنبيا، أبيضاً أو أسوداً، ذكراً أو أنثى، فقيراً أو غنياً، ثابت النسب أو لقيطا .
المطلب الثاني
مدلول الإنسان الحي
الإنسان هو كل كائن حي تضعه المرأة، ولما كان القانون يتطلب في محل جريمة القتل أن يكون المجني عليه إنساناً حياً، لذلك تبدو أهمية تحديد اللحظة التي تبدأ فيها حياة الإنسان واللحظة التي تنتهي فيها، حتى يتحدد نطاق الحماية الجنائية لحق الحياة .
الفرع الأول : بداية حياة الإنسان :
لا تبدأ حياة الإنسان ساعة مولده بل تبدأ قبلها ، فالجنين في بطن أمه كائن تدب فيه الحياة في لحظة معينة، إلا أن صفة الإنسان لاتخلع قانوناً على هذا الكائن بل يسمى جنيناً أو حملا مستكنا حتى يولد( ). وقد احاط المشرع الاتحادي هذا الجنين بالحماية الجنائية فجرم الاجهاض بمقتضى المادتين 339/3 و340 عقوبات، وعليه فإن القضاء على حياة الإنسان يعد قتلاً والإجهاز على الجنين يعد إجهاضاً ( ).
فلحظة الميلاد هي إذن بداية حياة الإنسان الفعلية لتمتعه بكيانه المستقل عن كيان أمه، إلا أن الوضع لايتم دفعة واحدة بل يتقدمه مخاض قد يمتد أمداًمن الوقت حتى إذا تهياً الوليد للنزول برزت بعض أجزائه تم توالي بروز سائره. وتثور هنا مشكلة أن هذا الوليد قد يتعرض خلال عملية الوضع لفعل يقضي عليه ، فهل يعد ذلك إجهاضا أو قتلاً ؟
اتفق الفقه الجنائي على أنه في تطبيق نصوص القتل لايشترط لبدء الوجود القانوي للإنسان أن يخرج الوليد بأكمله من رحم أمه ، بل يعتبر إنساناً حتى قبل أن يتم انفصاله. إلا أن الاختلاف حدث بالنسبة للحظة التي يكتسب الوليد فيها وصف الإنسان.
- فذهب البعض إلى أن الوليد يكتسب صفة الإنسان إذا انفصل جزئياً عن أمه وبرز بعض جسمه إلى الوجود( ).
- وذهب أغلب الفقه ( ) إلى أنه يكفي اكتمال نضج الجنين وتمتعه بحياة مستقلة عن حياة أمه واستعداده للنزول. ومن ثم يثبت للإنسان وجوده القانوني من اللحظـة التي تبدأ فيها عملية الوضع ولو تراخى نزول الوليد لبعض الوقت .
والرأي الأخير هو الراجح لأن تمام النضج لايتوقف على اكتمال الوضع، حيث قد يحدث اكتمال النضج ويتراخى الوضع لعسر في الولادة. ومتى اكتمل نضج الجنين اعتبر إنساناً تحميه نصوص القتل .
ويترتب على ما تقدم أنه إذا ارتكب الطبيب خطأ جسيما أثناء الإشراف على عملية الولادة فمات المولود ، يسأل الطبيب عن قتل خطأ، لأن المولود قد اكتسب صفة الإنسان منذ لحظة بداية عملية الوضع التي تدل على اكتمال نضجه( ).
وإذا كان محل القتل هو الإنسان الحي فإنه لايشترط أن يكون سليماً أو معافى من الأمراض ، بل يتمتع بالحماية القانونية كل ما تلده المرأة ولو أجمع الأطباء على أنه مقضي عليه بالموت بعد ساعات من ولادته ، ولو كان مشوهاً مالم يصل الشذوذ في تكوينه إلى حد يخرجه من عداد بني الإنسان .
ويعتبر الفعل قتلاً من باب أولى إذا وقع على محكوم عليه بعقوبة الإعدام ولو تم قبل تنفيذ الحكم بدقائق معدودة ، لأن حياة الإنسان لها حصانتها فلا يجوز إزهاقها إلا في الأحوال المنصوص عليها قانوناً .
الفرع الثاني : نهاية حياة الإنسان :
تنتهي حياة الإنسان بوفاته ، واعتبارا من هذه اللحظة يسقط عنه وصف الإنسان ويتحول جثة لاترد عليها جريمة القتل . وتقرير حدوث الوفاة مسألة فنية يستعين فيها القاضي بأهل الخبرة من الأطباء الذين يستدلون على الموت عادة بتوقف الجهاز الدموى والعصبي والتنفسي توقفاً تاماً عن العمل( ) . غير أن توقف أجهزة الحياة لدى شخص عن العمل لايؤدي بالضرورة إلى القطع بحدوث الوفاة ، إذ قد يقرر الأطباء إمكان استعادة الحياة في بعض الحالات خلال فترة من توقف الأجهزة العضوية عن العمل ، وذلك عن طريق تنشيط الدورة الدموية وإنعاش القلب . ولهذا فإنه لايقصد بالموت في تطبيق أحكام قانون العقوبات مجرد فقدان الحياة ، بل استحالة استردادها مطلقاً . وعليه فإنه إذا لم يصبح الإنسان في عداد الموتى على نحو أكيد ، فإنه يعد في حكم الأحياء . وعلى هذا الأساس يعد قاتلاً من أطلق النار على شخص توقفت أجهزة الحياة لديه ، وكان الأطباء قد شرعوا في تنشيط قلبه مقررين إمكانية استعادة الحياة ، ولكن ترتب على الاعتداء استحالة انقاذه .
وبثبوت وفاة الشخص واستحالة استعادة حياته يصير شيئاً لاإنساناً فلا يكون محلا لجريمة القتل ، بل إن المشرع الإماراتي ترك هذه الجثة دون حماية من أي اعتداء يقع عليها من لحظة الوفاة إلى لحظة دخول القبر ، ثم تعود لها الحماية إذا تم العبث بها لأن ذلك يشكل انتهاكاً لحرمة جثة أو رفات آدمي (المادة 316 عقوبات اتحادي) ( ) .
المطلب الثالث
مشاكل محل القتل
تتطلب دراسة محل القتل التعرض لبعض المشاكل التي يثيرها هذا المحل، ومنها القتل بدافع الشفقة، ومشكة الانتحار، وسوف نتولى دراستها تباعاً.
الفرع الأول : القتل إشفاقاً :
القتل إشفاقاً La bonne mort هو وضع حد لحياة مريض لا يرجى شفاؤه لتخليصه من آلامه المبرحة ( ). فجوهر المشكلة يكمن في التعجيل بإنهاء حياة محكوم عليها بالهلاك حتما هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العدوان الواقع في مثل هذا القتل لايصدر عن إرادة إجرامية، بل عن نفس رحيمة مشفقة على الإنسان محل هذا الاعتداء. فهل تقوم جريمة القتل في هذه الحالة ؟
لايشترط في محل القتل سوى أن يكون إنسانا حيا، ولو كان مريضاً مرضاً مبرحاً وميئوساً من شفائه طالما لم تحن بعد لحظة وفاته الطبيعية، وأي فعل يقع على مثل هذا الإنسان سواء أكان فعلاً إيجابياً أو امتناعاً عن إعطاء العلاج، واقترن بقصد إحداث الوفاة، كان صالحاً لقيام جريمة القتل العمدي. ولا يغير من هذا الحكم أن يكون المريض راضياً بوقوع الفعل عليه، لأن رضاء المجني عليه لاقيمة له في جريمة القتل، كما لايغير من ذلك أن يكون الفاعل مدفوعاً بباعث الشفقة، لأنه لاعبرة في القانون بالبواعث من حيث وجود الجريمة ذاتها.
ولما كان القتل في هذه الصورة ذا باعث شريف، نصت بعض التشريعات الجنائية( ) على اعتباره عذراً مخففاً للعقاب إذا وقع القتل بناء على إلحاح المريض، على أساس أن القاتل في هذه الحالة ليس مجرماً عاديا بل مجرما مثالياً يقدم على اقتراف فعله تحت تأثير عاطفة نبيلة( ).
ولقد اعتد المشرع الإماراتي بالباعث الشريف وجعله عذراً مخففاً للعقاب بمقتضى (المادة 96) عقوبات اتحادي حيث نصت على أنه " يعد من الأعذار المخففة حداثة سن المجرم أو ارتكاب الجريمة لبواعث غير شريرة أو بناء على استفزاز خطير صادرة من المجني عليه بغير حق".
وقضت (المادة97) عقوبات اتحادي بأنه " إذا توفر عذر مخفف في جناية عقوبتها الإعدام نزلت العقوبة إلى السجن المؤبد أو المؤقت أو إلى الحبس الذي لاتقل مدته عن سنة، فإن كانت عقوبتها السجن المؤبد أو المؤقت نزلت إلى عقوبة الحبس الذي لايقل عن ثلاثة أشهر، وذلك كله مالم ينص القانون على خلافه".
وتطبيقاً لهذين النصين يعتبر دافع الشفقة في القتل عذراً قانونياً مخففاً للعقوبة ، فإذا اقترن بالقتل البسيط وجب على القاضي أن ينزل بالعقوبة من السجن المؤبد أو المؤقت إلى الحبس الذي لايقل عن ثلاثة أشهر. أما إذا اتصل بالقتل إشفاقاً ظرف من الظروف المشددة المنصوص عليها في المادة 332/2 عقوبات اتحادي، تعين على القاضي أن يخفف العقوبة من الإعدام إلى السجن المؤبد أو المؤقت أو الحبس الذي لاتقل مدته عن سنة. فإذا حكم القاضي بالحبس الذي لايتجاوز سنة جاز له أن يقضي بوقف تنفيذ العقوبة إذا قدر من ظروف الدعوى أن المحكوم عليه لن يعود إلى ارتكاب جريمة أخرى، ويجوز له أن يجعل وقف التنفيذ شاملاً أية عقوبة فرعية ماعدا المصادرة ، وهذا تطبيقاً لنص المادة 83 عقوبات اتحادي( ) .
الفرع الثاني : الانتحـار :
الانتحار كالقتل هو إزهاق لروح إنسان حي لايختلف عنه إلا في وقوعه من المنتحر على نفسه أي وحدة شخص القاتل والمقتول ، أما القتل فهو إزهاق روح إنسان بفعل إنسان آخر .
فهل يعتبر الانتحار جريمة كالقتل باعتباره عدواناً على إنسان حي؟
وإن كان الانتحار يعد جريمة من الناحيتين الدينية والاجتماعية( ) على حد سواء، فإن القانون الإماراتي وسائر القوانين الجنائية المعاصرة لاتعاقب على الانتحار على أساس أن تمام الانتحار يعني إنعدام المحل الذي كان يمكن إصلاحه بالعقوبة، فلا يتصور توقيع العقوبة على المنتحر. كما أنه لاعقاب على الشروع في الانتحار على أساس أن الشروع يتطلب البدء في تنفيذ فعل ذي صفة إجرامية، وقد انتفت هذه الصفة في الانتحار ، فضلاً على أن من هانت عليه نفسه يهون عليه أي عقاب، وإن كان الأمر قد يتطلب معالجته عقليا أو نفسيا ( ) .
غير أن التشريعات الجنائية تختلف في موقفها من التحريض والمساعدة على الانتحار ؛ إذ يتحه أغلبها إلى معاقبة كل من حمل إنساناً على الانتحار أو ساعده على ذلك ، لأن في سلوكهما مساهمة جدية في إهدار حياة إنسان حي . وعلي هذا الأساس قررت (المادة 335) ( ) عقوبات اتحادي عقاب من حرض آخر أو ساعده بأية وسيلة على الانتحار وتم الانتحار بناء على ذلك . وبمقتضى هذه المادة ميز المشرع الإماراتي بين حالات ثلاث على النحو الآتي :-
1- أن يكون المنتحر كامل الإرادة والإدراك : إذا تم الانتحار بناء على التحريض أو المساعدة يعاقب من أتي هذا النشاط بالحبس الذي لاتزيد مدته عن خمس سنين . فالجريمة إذن جنحة ولكن المشرع رفع حدها الأقصى عن الحد المقرر للجنح بثلاث سنوات (المادة 69/2) عقوبات اتحادي .
2- عدم بلوغ المنتحر الثامنة عشر (18) سنة أو كان ناقص الإرادة أو الإدراك: فإذا تم الانتحار بناء على التحريض أو المساعدة ، اعتبر المشرع الإماراتي صغر سن المنتحر لعدم بلوغه الثامنة عشر ونقص إرادته وإدراكه إذا كان قد بلغ هذا السن ظرفاً مشدداً، وعليه فإن العقوبة الموقعة على من حرض أو ساعد على الانتحار في هذه الصورة قد تصل إلى الحبس لمدة عشر سنوات مع بقاء الجريمة جنحة ( ) .
3- أن يكون المنتحر أو من شرع في الانتحار فاقد الاختيار أو الإدراك، كالمجنون والمعتوه والصغير غير المميز، فاعتبر من أتى سلوك التحريض أو المساعدة فاعلاً معنويا أي مرتكباً جناية قتل عمدي أو شروع فيه، لأن المنتحر أو من شرع في الانتحار يكون بين يديه مجرد أداة لتنفيذ الفعل لافتقاده التمييز والإرادة، كمن يحرض مجنوناً على تناول مادة سامة، أو لافتقاده الاختيار كمن يكره شخصاً على قتل نفسه، ففي هذه الأحوال لايكون سلوك القتيل هو السبب في إزهاق روحه لأن إرادة هذا السوك منتفية لديه لانعدام إرادته أو اختياره، وإنما ينسب هذا السلوك إلى الفاعل المعنوي للجريمة وهو الشخص الذي حرض القتيل على تناول المادة السامة أو أكرهه على الانتحار. وعليه تكون العقوبة المقررة في حالة وقوع الانتحار هي السجن المؤبد أو المؤقت ، فإذا توافر ظرف من الظروف المشددة تكون العقوبة الإعدام. فإذا وقفت الجريمة عند حد الشروع تكون العقوبة المقررة وفقا لنص (المادة 35) عقوبات اتحادي( ).
ومن التشريعات الجنائة التي سلكت نهج المشرع الإماراتي فعاقبت على التحريض والمساعدة على الانتحار بنصوص خاصة باعتبارها جريمة قائمة بذاتها، القانون العماني (المادة 241 عقوبات)، والقانون القطري (المادتان 158 و 159 عقوبات)، والقانون اللبناني (المادة 553) .
أما المشرع المصري فلم يعاقب على التحريض والمساعدة على الانتحار بنص خاص، كما وأن هذا النشاط لايخضع للعقاب باعتباره فعل اشتراك لأن الفعل الأصلي الذي يستمد منه فعل الاشتراك الصفة الجرمية، وهو الانتحار هو فعل مباح أصلا ( ) .
المبحث الثاني
الركن المادي في جريمة القتل
جريمة القتل بطبيعتها لاتقع بسلوك مجرد، بل تتم بحدوث الوفاة كأثر لفعل القتل وهي بذلك تعد من الجرائم ذات النتائج. ولاكتمال الركن المادي في جريمة القتل ينبغي أن يصدر عن الجاني فعل تعقبه وفاة شخص، وأن تقوم بين الفعل وهذه الوفاة علاقة السببية .
المطلب الأول
فعـــل القتــل
حدد نص القانون السلوك المكون لجريمة القتل بأنه قتل نفس عمداً (المادة 332 عقوبات اتحادي)، ولم يصف القانون تفصيلاً صورة هذا السلوك وكيفية تحقق القتل به، وقد قصد المشرع من ذلك أن يستوعب النص أية طريقة ينتهجها المتهم وتترتب عليها وفاة إنسان. ولذلك تندرج جريمة القتل في عداد جرائم القالب الحر. وعليه سوف نتطرق لماهية فعل القتل ثم لمسألة القتل بالامتناع.
الفرع الأول : فعل القتل ووسائله :
الفعل في القتل هو كل سلوك إرادي يزهق به الجاني روح إنسان آخر. ولم يضع المشرع الإماراتي وصفاً محدداً لهذا الفعل، بل كل سلوك في نظره يصلح ليكون فعلاً في الركن المادي للقتل، مادام قد أدى إلى إزهاق روح إنسان آخر، ففعل القتل إذن لايتحدد بذاته ولا بشكله وإنما يتحدد بأثره.
وعليه فإن حصول الفعل كسلوك مادي أمر لازم لقيام جريمة القتل، فلا يقوم الركن المادي من مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو التصميم عليها، لأن هذا العزم لايشكل فعلا صالحا لإحداث الوفاة .
ولما كان الفعل في الركن المادي لجريمة القتل هو أي سلوك إرادي صالح لإحداث الوفاة، فإنه قد يتمثل في حركة عضوية واحدة كضربة واحدة بعصا غليظة على الرأس أو دفعه أمام قطار أو إلقائه من شاهق. وقد يتكون الفعل من جملة حركات كتقديم جرعات متعددة من السم أو تكرار الطعن بالسكين .
وتستوي في نظر القانون الوسائل التي يستعملها الجاني في ارتكاب فعل القتل، لأن الخطر لايكمن في الوسيلة وإنما فيما يترتب على استعمالها من نتيجة، ولهذا فلا فرق بين وسيلة وأخرى لامن حيث التجريم ولامن حيث العقاب، وفي ذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا بأنه : " فإذا ما تحققت الوفاة بسبب تعمد هذا الفعل كان القتـل عمـداً أيـا كانـت الآلــه المستعملــة في إحداث الإصابة التي نجمت عنها الوفاة ..... " ( ). ومن هذا الأصل استثنى المشرع الإماراتي لاعبتارات خاصة وسيلة القتل بمادة سامة أو مفرقعة فجعل منها ظرفاً مشدداً للعقوبة (المادة 332/2 عقوبات).
وقد تكون الوسيلة قاتلة بطبيعتها كالأسلحة النارية والمواد السامة، وقد تكون غير قاتلة بطبيعتها ولكنها تؤدي إلى الوفاة نتيجة استخدامها على نحو معين كالعصي والفؤوس ( ) .
ولا يشترط أن يلامس الجاني جسم المجني عليه مباشرة كما هو الحال في الركل والخنق، بل يكفي أن يهيىء الجاني أسباب الموت ثم يسخرها لتحدث أثرها، كمن يرسل طرداً إلى المجني عليه يحوي قنبلة تنفجر عند فتحه، وكذلك وضع عقرباً أو أفعى سامة في فراش المجني عليه فتلدغه.
وإن كانت كل الوسائل سواء في نظر القانون من حيث وقوع فعل القتل فإن النقاش يثور حول صلاحية الوسائل المعنوية لإحداث القتل . وتتميز الوسائل المعنوية عن الوسائل المادية في عدم وقوعها على الجسم المادي للمجني عليه، وإنما ينصرف أثرها إلى نفسيته فتحدث فيها جرحاً يؤثر في أجهزته الداخلية تأثيراً يصل إلى إزهاق روحه. ومن أمثلتها : إلقاء نبأ مفجع كمصرع ابن وحيد على شخص مريض بالقلب بطريقة معينة بقصد قتله، فيقع فريسة نوبة قلبية تقضي عليه، أو ترويع طفل صغير بطريقة متتابعة حتى يموت .
أولاً – اتجه البعض( ) إلى القول بعدم كفاية الوسائل المعنوية لإحداث القتل، وانه يلزم استعمال وسائل مادية تصيب جسد المجني عليه، وقد استند هذا الرأي في تبرير موقفه إلى اعتبارات عملية تتمثل في استحالة إثبات علاقة السببية بين الوفاة والوسيلة المعنوية ، فضلاً على صعوبة إثبات القصد الجنائي في هذه الحالة إذ كيف يمكن إقامة الدليل على أن النبأ المفجع كان سبباً للوفاة التي حدثت .
ثانياً – إلا أن الرأي الراجح( ) استقر على التسوية بين الوسائل المعنوية والوسائل المادية في إحداث القتل، فالقانون يعاقب" من قتل نفساً عمداً "... أو من "تسبب بخطئه في موت شخص..." (المادتان 332/1 و 342/1 عقوبات اتحادي) دون أن يخصص القتل في الحالتين بوسيلة معينة.
ولايغير من ذلك القول بصعوبة إثبات علاقة السببية بين الوسيلة النفسية وبين الوفاة ، لأن الإثبات ليس معياراً لتحديد السلوك الذي يشكل عنصراً في الركن المادي للجريمة، فضلاً على أن هذه المشكلة تتعلق بذوي الخبرة وعليهم يقع واجب حلها.
علاوة على ما تقدم فإن الوسائل المعنوية لايقتصر أثرها على الحالة النفسية، بل يمتد إلى سائر أعضاء الجسم عن طريق التأثير على الجهاز العصبي الذي بدوره يؤثر على أجهزة الجسم فيحدث بها اضطرابا يؤدي إلى الوفاة . وأما عن إثبات القصد الجنائي في هذه الصورة فذلك متاح من خلال الظروف المحيطة بالواقعة وعلاقة المجني عليه بالجاني، وهي مسألة تقع على عاتق قاضي الموضوع الذي إن تعذر عليه إثبات القصد فلن يتعذر عليه إثبات الخطأ .
وعلى هذا فالوسائل المعنوية تعد من وسائل القتل شأنها شأن الوسائل المادية، فيعاقب من استخدمها في القتل، متى توافرت علاقة السببية بين الفعل والوفاة وكان القصد الجنائي ثابتاً .
الفرع الثاني : القتل بالامتناع :
السلوك الإنساني له مظهران : فعل إيجابي وامتناع أو ترك. والقتل بطبيعته جريمة إيجابية لأنه يتطلب فعل اعتداء على الحياة. ويقودنا هذا إلى التساؤل عن إمكانية وقوع القتل بطريق الامتناع، إذا ثبت قصد إحداث الوفاة بهذا الترك ؟
إبتداء يتعين الإشارة إلى أن الامتناع المسبوق بفعل إيجابي ، كمن يخطف طفلاً ويحدث به إصابات جسيمة تعجزه عن الحركة، ثم يتركه في الصحراء ليموت جوعاً، فإنه لاخلاف في الفقه حول مسئولية صاحبه عن قتل عمدي إذا توافر القصد الجنائي لديه، لأن دور الامتناع اقتصر على تمكين الفعل الإيجابي من إنتاج آثاره، فيتحمل الفعل الإيجابي عبء النتيجة ويكون سببا لها .
أما الامتناع الذي يثير المشكلة في مجال جريمة القتل فهو الامتناع الخالص ومثاله امتناع الأم عن إرضاع طفلها حتى يموت، وامتناع الممرضة عن إعطاء الدواء للمريض بقصد قتله، فإذا توفي المجني عليه، فهل يتحقق الركن المادي لجريمة القتل بهذا الامتناع؟ للإجابة على هذا السؤال نميز بين اتجاهين هما كالآتي :-
أولاً : عدم وقوع القتل بطريق الامتناع :
يذهب هذا الرأي( ) متأثراً بالفقه الفرنسي إلى عدم إمكان وقوع القتل بطريق الامتناع لأن القتل جريمة إيجابية يتطلب ركنها المادي فعلاً إيجابيا، وإن تفسير نصوص القتل لتشمل الفعل والامتناع فيه خروج على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يحظر القياس في التجريم .
كما أن الامتناع عدم ولايمكن أن يكون سبباً في حدوث نتيجة إيجابية، لأن العدم لايفضي إلا إلى عدم مثله( ).
ويرد على هذا الرأي بأن نصوص القتل لاتحدد شكل السلوك الذي تقع به الجريمة ولا طبيعته، بل تعاقب على كل سلوك تترتب عليه الوفاة. فضلاً عن ذلك فإن الامتناع كالفعل الإيجابي سلوك إرادي، فبينما تكون الإرادة دافعة للحركة في الفعل، تكون مانعة للحركة في الامتناع، وعليه فالامتناع سلوك يتجسد واقعاً في الكف عن عمل معين.
ومن هذا المنطلق جاء الباب السابع من الكتاب الثاني متضمناً مجموعة الجرائم الواقعة على الأشخاص وذلك في المواد من 331 إلى 380 عقوبات اتحادي
وتعد جرائم الاعتداء على الأشخاص من أكثر الجرائم أهمية ووقوعاً في العمل، ويقصد بها تلك المجموعة من الجرائم التي تقع اعتداء على جوانب الشخصية الإنسانية، ومن ثم فهي تستهدف إما المساس بشخصية الإنسان الطبيعية أو العضوية، فتمس حقه في الحياة، أو سلامته البدنية، أو عرضه أو حريته (جرائم القتل، الإيذاء البدني، العرض كالاغتصاب واللواط، وجرائم الحرية كالخطف والقبض). وأما أنها تستهدف المساس بشخصية الإنسان المعنوية، أي بقيمة الإنسان الاعتبارية كجرائم الشرف والاعتبار (ومنها جرائم القذف والسب وإفشاء الأسرار).
وقد جاءت جرائم الاعتداء على الأشخاص في قانون العقوبات الاتحادي على النحو المتقدم، لتوفر الحماية اللازمة لمقومات شخصية الإنسان المادية والمعنوية، فمنها ما يصيب الإنسان في حياته كالقتل (المادة 332 وما بعدها)، ومنها ما يصيبه في صحته وسلامة بدنه كالايذاء البدني (المادة 336 وما بعدها) ومنها ما يصيبه في حريته كالخطف والقبض (المادة 334 وما بعدها) ومنها ما يصيبه في عرضه كالاغتصاب وهتك العرض والفعل الفاضح (المادة (354 وما بعدها) ومنها ما يصيبه في سمعته وشرفه كالقذف والسب وإفضاء الأسرار (المادة 371 وما بعدها).
وسوف نتناول في القسم الأول من هذا الؤلف أهم الجرائم التي تقع اعتداء على الأشخاص وهي جرائم القتل والإيذاء البدني، من خلال بابين، يخصص الأول لجرائم القتل بينما يخصص الثاني لجرائم الاعتداء على السلامة البدنية.
الباب الأول
جرائـــم القتـــل
تمهيد وتقسيم :
الثابت أن القتل هو إزهاق روح إنسان آخر دون وجه حق. وتكمن علة تجريم فعل القتل في حماية حق الإنسان في الوجود، وبالتالي حق المجتمع ذاته في الاستمرار والبقاء، لأن وجود المجتمع مرتبط بحماية وجود أفراده .
وتعد جريمة القتل من أقدم الجرائم وأبشعها في جميع الشرائع ومنها الشريعة الإسلامية التي نهت عن القتل العمد، واعتبرته من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم لقوله تعالى "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقـد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً"( )، وقوله تعالى "والذين لايدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولايزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما " ( ) .
ويقسم أغلب الفقه الجنائي الإسلامي القتل إلى ثلاثة أقسام ( ): عمد، شبه عمد وخطأ .
1- القتل العمد وهو أن يتعمد الجاني الفعل المزهق قاصداً إزهاق روح المجني عليه ، وصورته أن يتعمد الجاني قتل النفس بما يقطع بحده كالحديد أو مايقتل بثقله كالحجارة ، ويعاقب عليه بالقتل إلا أن يعفو ولي الدم مقابل الدية أو بدون مقابل .
2- القتل شبة العمد وهو ماتعمد فيه الجاني الاعتداء على المجني عليه دون أن يقصد قتله ، ونتج عن الاعتداء موت المجني عليه . وتسمى هذه الصورة في القانون الوضعي الاعتداء على سلامة الجسم المفضي إلى الموت ، ومثاله أن يضرب معلم صبياً بمعهود فتلف ، فلا قود عليه في هذا القتل ، وفيه الدية على العاقلة مغلظة ، وتغليظها في الذهب والورق أن يزداد عليها ثلثها ، وفي الإبل أن تكون أثلاثاً منها ثلاثون حقة وثلاثون جدعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها .
3- القتل الخطأ وفيه يتسبب الجاني في القتل من غير قصد أي نتيجة خطأ ، كرجل رمى هدفاً فأمات إنساناً ، أو وضع حجراً فعثر به إنسان فمات، فهذا القتل يوجب الدية دون القود وتكون على عاقلة الجاني مؤجلة ثلاث سنين من حين موت القتيل .
ولقد حرصت التشريعات الجنائية على اختلاف مشاربها على حماية حق الإنسان في الحياة، وعموماً يعرف القتل بأنه إزهاق روح إنسان بفعل إنسان آخر دون حق عمداً أو عن خطأ ( ) . وسوف نتولى دراسة جرائم القتل في ثلاثة فصول متتابعة ، نخصص الفصل الأول لدراسة الأحكام العامة لجرائم القتل ، ونتناول في الفصل الثاني الأحكام الخاصة بالقتل العمدي ، أما الفصل الثالث فنخصصه لدراسة أحكام القتل غير العمدي .
الفصل الأول
الأحكام العامة لجرائم القتل
نتناول في هذا الفصل دراسة الأحكام العامة لجرائم القتل أيا كانت صورة الركن المعنوي فيها، وعليه ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين ، يخصص الأول لدراسة محل جريمة القتل ، والثاني لدراسة السلوك الإجرامي والنتيجة المترتبة عليه المتمثلة في الوفاة ، ثم علاقة السببية بين الفعل والنتيجة .
المبحث الأول
محل جريمة القتل
نتعرض في هذا المبحث لتحديد محل جريمة القتل، ثم لمسألة بداية الحياة ونهايتها، ونتناول أخيراً المشاكل التي يثيرها محل القتل وتحديداً مشكلة القتل إشفاقاً، ثـم الانتحار، وذلك كله من خلال ثلاثة مطالب متتالية وفق الآتي:
المطلب الأول
تحديد محل جريمة القتل
يقصد بمحل جريمة القتل تلك المصلحة التي يرمي القانون إلى حمايتها بالجزاء الجنائي وتقوم الجريمة بتحقق الاعتداء عليها ، وتتمثل هذه المصلحة في جريمة القتل في حماية حق الإنسان في الحياة ( ). فالاعتداء في جرائم القتل يستهدف إذن الإنسان الحي، فلا تقع جريمة القتل إلا إذا كان المجني عليه إنساناً حياً، وقد عبر المشرع الاتحادي على ذلك في المادة 332/1 عقوبات بقوله "من قتل نفسا..... " وينصرف لفظ النفس إلى الإنسان دون غيره. ويترتب على ذلك عدم وقوع جريمة القتل إذا كان محل الاعتداء حيواناً، وإن شكل هذا الفعل جريمة أخرى هي جريمة قتل حيوان دون مقتضي التي نص عليها المشرع الاتحادي في المادة 426/1 عقوبات في باب " إتلااف المال والتعدي على الحيوان "أي أن المشرع اعتبره عدواناً على مال يملكه الغير، فمحل الحماية الجنائية هو حق الملكية وليس حق الحيوان في الحياة .
ولا يتطلب القانون في الإنسان سوى أن يكون حياً بصرف النظر عن جنسيته أو لونه أو دينه أو مركزه الاجتماعي أو الوظيفي أو جنسه، لأن الناس متكافئون في قدر الحماية الجنائية لأرواحهم . فيستوي في نظر القانون بعد أن يكون الإنسان حياً أن يكون وطنياً أو أجنبيا، أبيضاً أو أسوداً، ذكراً أو أنثى، فقيراً أو غنياً، ثابت النسب أو لقيطا .
المطلب الثاني
مدلول الإنسان الحي
الإنسان هو كل كائن حي تضعه المرأة، ولما كان القانون يتطلب في محل جريمة القتل أن يكون المجني عليه إنساناً حياً، لذلك تبدو أهمية تحديد اللحظة التي تبدأ فيها حياة الإنسان واللحظة التي تنتهي فيها، حتى يتحدد نطاق الحماية الجنائية لحق الحياة .
الفرع الأول : بداية حياة الإنسان :
لا تبدأ حياة الإنسان ساعة مولده بل تبدأ قبلها ، فالجنين في بطن أمه كائن تدب فيه الحياة في لحظة معينة، إلا أن صفة الإنسان لاتخلع قانوناً على هذا الكائن بل يسمى جنيناً أو حملا مستكنا حتى يولد( ). وقد احاط المشرع الاتحادي هذا الجنين بالحماية الجنائية فجرم الاجهاض بمقتضى المادتين 339/3 و340 عقوبات، وعليه فإن القضاء على حياة الإنسان يعد قتلاً والإجهاز على الجنين يعد إجهاضاً ( ).
فلحظة الميلاد هي إذن بداية حياة الإنسان الفعلية لتمتعه بكيانه المستقل عن كيان أمه، إلا أن الوضع لايتم دفعة واحدة بل يتقدمه مخاض قد يمتد أمداًمن الوقت حتى إذا تهياً الوليد للنزول برزت بعض أجزائه تم توالي بروز سائره. وتثور هنا مشكلة أن هذا الوليد قد يتعرض خلال عملية الوضع لفعل يقضي عليه ، فهل يعد ذلك إجهاضا أو قتلاً ؟
اتفق الفقه الجنائي على أنه في تطبيق نصوص القتل لايشترط لبدء الوجود القانوي للإنسان أن يخرج الوليد بأكمله من رحم أمه ، بل يعتبر إنساناً حتى قبل أن يتم انفصاله. إلا أن الاختلاف حدث بالنسبة للحظة التي يكتسب الوليد فيها وصف الإنسان.
- فذهب البعض إلى أن الوليد يكتسب صفة الإنسان إذا انفصل جزئياً عن أمه وبرز بعض جسمه إلى الوجود( ).
- وذهب أغلب الفقه ( ) إلى أنه يكفي اكتمال نضج الجنين وتمتعه بحياة مستقلة عن حياة أمه واستعداده للنزول. ومن ثم يثبت للإنسان وجوده القانوني من اللحظـة التي تبدأ فيها عملية الوضع ولو تراخى نزول الوليد لبعض الوقت .
والرأي الأخير هو الراجح لأن تمام النضج لايتوقف على اكتمال الوضع، حيث قد يحدث اكتمال النضج ويتراخى الوضع لعسر في الولادة. ومتى اكتمل نضج الجنين اعتبر إنساناً تحميه نصوص القتل .
ويترتب على ما تقدم أنه إذا ارتكب الطبيب خطأ جسيما أثناء الإشراف على عملية الولادة فمات المولود ، يسأل الطبيب عن قتل خطأ، لأن المولود قد اكتسب صفة الإنسان منذ لحظة بداية عملية الوضع التي تدل على اكتمال نضجه( ).
وإذا كان محل القتل هو الإنسان الحي فإنه لايشترط أن يكون سليماً أو معافى من الأمراض ، بل يتمتع بالحماية القانونية كل ما تلده المرأة ولو أجمع الأطباء على أنه مقضي عليه بالموت بعد ساعات من ولادته ، ولو كان مشوهاً مالم يصل الشذوذ في تكوينه إلى حد يخرجه من عداد بني الإنسان .
ويعتبر الفعل قتلاً من باب أولى إذا وقع على محكوم عليه بعقوبة الإعدام ولو تم قبل تنفيذ الحكم بدقائق معدودة ، لأن حياة الإنسان لها حصانتها فلا يجوز إزهاقها إلا في الأحوال المنصوص عليها قانوناً .
الفرع الثاني : نهاية حياة الإنسان :
تنتهي حياة الإنسان بوفاته ، واعتبارا من هذه اللحظة يسقط عنه وصف الإنسان ويتحول جثة لاترد عليها جريمة القتل . وتقرير حدوث الوفاة مسألة فنية يستعين فيها القاضي بأهل الخبرة من الأطباء الذين يستدلون على الموت عادة بتوقف الجهاز الدموى والعصبي والتنفسي توقفاً تاماً عن العمل( ) . غير أن توقف أجهزة الحياة لدى شخص عن العمل لايؤدي بالضرورة إلى القطع بحدوث الوفاة ، إذ قد يقرر الأطباء إمكان استعادة الحياة في بعض الحالات خلال فترة من توقف الأجهزة العضوية عن العمل ، وذلك عن طريق تنشيط الدورة الدموية وإنعاش القلب . ولهذا فإنه لايقصد بالموت في تطبيق أحكام قانون العقوبات مجرد فقدان الحياة ، بل استحالة استردادها مطلقاً . وعليه فإنه إذا لم يصبح الإنسان في عداد الموتى على نحو أكيد ، فإنه يعد في حكم الأحياء . وعلى هذا الأساس يعد قاتلاً من أطلق النار على شخص توقفت أجهزة الحياة لديه ، وكان الأطباء قد شرعوا في تنشيط قلبه مقررين إمكانية استعادة الحياة ، ولكن ترتب على الاعتداء استحالة انقاذه .
وبثبوت وفاة الشخص واستحالة استعادة حياته يصير شيئاً لاإنساناً فلا يكون محلا لجريمة القتل ، بل إن المشرع الإماراتي ترك هذه الجثة دون حماية من أي اعتداء يقع عليها من لحظة الوفاة إلى لحظة دخول القبر ، ثم تعود لها الحماية إذا تم العبث بها لأن ذلك يشكل انتهاكاً لحرمة جثة أو رفات آدمي (المادة 316 عقوبات اتحادي) ( ) .
المطلب الثالث
مشاكل محل القتل
تتطلب دراسة محل القتل التعرض لبعض المشاكل التي يثيرها هذا المحل، ومنها القتل بدافع الشفقة، ومشكة الانتحار، وسوف نتولى دراستها تباعاً.
الفرع الأول : القتل إشفاقاً :
القتل إشفاقاً La bonne mort هو وضع حد لحياة مريض لا يرجى شفاؤه لتخليصه من آلامه المبرحة ( ). فجوهر المشكلة يكمن في التعجيل بإنهاء حياة محكوم عليها بالهلاك حتما هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العدوان الواقع في مثل هذا القتل لايصدر عن إرادة إجرامية، بل عن نفس رحيمة مشفقة على الإنسان محل هذا الاعتداء. فهل تقوم جريمة القتل في هذه الحالة ؟
لايشترط في محل القتل سوى أن يكون إنسانا حيا، ولو كان مريضاً مرضاً مبرحاً وميئوساً من شفائه طالما لم تحن بعد لحظة وفاته الطبيعية، وأي فعل يقع على مثل هذا الإنسان سواء أكان فعلاً إيجابياً أو امتناعاً عن إعطاء العلاج، واقترن بقصد إحداث الوفاة، كان صالحاً لقيام جريمة القتل العمدي. ولا يغير من هذا الحكم أن يكون المريض راضياً بوقوع الفعل عليه، لأن رضاء المجني عليه لاقيمة له في جريمة القتل، كما لايغير من ذلك أن يكون الفاعل مدفوعاً بباعث الشفقة، لأنه لاعبرة في القانون بالبواعث من حيث وجود الجريمة ذاتها.
ولما كان القتل في هذه الصورة ذا باعث شريف، نصت بعض التشريعات الجنائية( ) على اعتباره عذراً مخففاً للعقاب إذا وقع القتل بناء على إلحاح المريض، على أساس أن القاتل في هذه الحالة ليس مجرماً عاديا بل مجرما مثالياً يقدم على اقتراف فعله تحت تأثير عاطفة نبيلة( ).
ولقد اعتد المشرع الإماراتي بالباعث الشريف وجعله عذراً مخففاً للعقاب بمقتضى (المادة 96) عقوبات اتحادي حيث نصت على أنه " يعد من الأعذار المخففة حداثة سن المجرم أو ارتكاب الجريمة لبواعث غير شريرة أو بناء على استفزاز خطير صادرة من المجني عليه بغير حق".
وقضت (المادة97) عقوبات اتحادي بأنه " إذا توفر عذر مخفف في جناية عقوبتها الإعدام نزلت العقوبة إلى السجن المؤبد أو المؤقت أو إلى الحبس الذي لاتقل مدته عن سنة، فإن كانت عقوبتها السجن المؤبد أو المؤقت نزلت إلى عقوبة الحبس الذي لايقل عن ثلاثة أشهر، وذلك كله مالم ينص القانون على خلافه".
وتطبيقاً لهذين النصين يعتبر دافع الشفقة في القتل عذراً قانونياً مخففاً للعقوبة ، فإذا اقترن بالقتل البسيط وجب على القاضي أن ينزل بالعقوبة من السجن المؤبد أو المؤقت إلى الحبس الذي لايقل عن ثلاثة أشهر. أما إذا اتصل بالقتل إشفاقاً ظرف من الظروف المشددة المنصوص عليها في المادة 332/2 عقوبات اتحادي، تعين على القاضي أن يخفف العقوبة من الإعدام إلى السجن المؤبد أو المؤقت أو الحبس الذي لاتقل مدته عن سنة. فإذا حكم القاضي بالحبس الذي لايتجاوز سنة جاز له أن يقضي بوقف تنفيذ العقوبة إذا قدر من ظروف الدعوى أن المحكوم عليه لن يعود إلى ارتكاب جريمة أخرى، ويجوز له أن يجعل وقف التنفيذ شاملاً أية عقوبة فرعية ماعدا المصادرة ، وهذا تطبيقاً لنص المادة 83 عقوبات اتحادي( ) .
الفرع الثاني : الانتحـار :
الانتحار كالقتل هو إزهاق لروح إنسان حي لايختلف عنه إلا في وقوعه من المنتحر على نفسه أي وحدة شخص القاتل والمقتول ، أما القتل فهو إزهاق روح إنسان بفعل إنسان آخر .
فهل يعتبر الانتحار جريمة كالقتل باعتباره عدواناً على إنسان حي؟
وإن كان الانتحار يعد جريمة من الناحيتين الدينية والاجتماعية( ) على حد سواء، فإن القانون الإماراتي وسائر القوانين الجنائية المعاصرة لاتعاقب على الانتحار على أساس أن تمام الانتحار يعني إنعدام المحل الذي كان يمكن إصلاحه بالعقوبة، فلا يتصور توقيع العقوبة على المنتحر. كما أنه لاعقاب على الشروع في الانتحار على أساس أن الشروع يتطلب البدء في تنفيذ فعل ذي صفة إجرامية، وقد انتفت هذه الصفة في الانتحار ، فضلاً على أن من هانت عليه نفسه يهون عليه أي عقاب، وإن كان الأمر قد يتطلب معالجته عقليا أو نفسيا ( ) .
غير أن التشريعات الجنائية تختلف في موقفها من التحريض والمساعدة على الانتحار ؛ إذ يتحه أغلبها إلى معاقبة كل من حمل إنساناً على الانتحار أو ساعده على ذلك ، لأن في سلوكهما مساهمة جدية في إهدار حياة إنسان حي . وعلي هذا الأساس قررت (المادة 335) ( ) عقوبات اتحادي عقاب من حرض آخر أو ساعده بأية وسيلة على الانتحار وتم الانتحار بناء على ذلك . وبمقتضى هذه المادة ميز المشرع الإماراتي بين حالات ثلاث على النحو الآتي :-
1- أن يكون المنتحر كامل الإرادة والإدراك : إذا تم الانتحار بناء على التحريض أو المساعدة يعاقب من أتي هذا النشاط بالحبس الذي لاتزيد مدته عن خمس سنين . فالجريمة إذن جنحة ولكن المشرع رفع حدها الأقصى عن الحد المقرر للجنح بثلاث سنوات (المادة 69/2) عقوبات اتحادي .
2- عدم بلوغ المنتحر الثامنة عشر (18) سنة أو كان ناقص الإرادة أو الإدراك: فإذا تم الانتحار بناء على التحريض أو المساعدة ، اعتبر المشرع الإماراتي صغر سن المنتحر لعدم بلوغه الثامنة عشر ونقص إرادته وإدراكه إذا كان قد بلغ هذا السن ظرفاً مشدداً، وعليه فإن العقوبة الموقعة على من حرض أو ساعد على الانتحار في هذه الصورة قد تصل إلى الحبس لمدة عشر سنوات مع بقاء الجريمة جنحة ( ) .
3- أن يكون المنتحر أو من شرع في الانتحار فاقد الاختيار أو الإدراك، كالمجنون والمعتوه والصغير غير المميز، فاعتبر من أتى سلوك التحريض أو المساعدة فاعلاً معنويا أي مرتكباً جناية قتل عمدي أو شروع فيه، لأن المنتحر أو من شرع في الانتحار يكون بين يديه مجرد أداة لتنفيذ الفعل لافتقاده التمييز والإرادة، كمن يحرض مجنوناً على تناول مادة سامة، أو لافتقاده الاختيار كمن يكره شخصاً على قتل نفسه، ففي هذه الأحوال لايكون سلوك القتيل هو السبب في إزهاق روحه لأن إرادة هذا السوك منتفية لديه لانعدام إرادته أو اختياره، وإنما ينسب هذا السلوك إلى الفاعل المعنوي للجريمة وهو الشخص الذي حرض القتيل على تناول المادة السامة أو أكرهه على الانتحار. وعليه تكون العقوبة المقررة في حالة وقوع الانتحار هي السجن المؤبد أو المؤقت ، فإذا توافر ظرف من الظروف المشددة تكون العقوبة الإعدام. فإذا وقفت الجريمة عند حد الشروع تكون العقوبة المقررة وفقا لنص (المادة 35) عقوبات اتحادي( ).
ومن التشريعات الجنائة التي سلكت نهج المشرع الإماراتي فعاقبت على التحريض والمساعدة على الانتحار بنصوص خاصة باعتبارها جريمة قائمة بذاتها، القانون العماني (المادة 241 عقوبات)، والقانون القطري (المادتان 158 و 159 عقوبات)، والقانون اللبناني (المادة 553) .
أما المشرع المصري فلم يعاقب على التحريض والمساعدة على الانتحار بنص خاص، كما وأن هذا النشاط لايخضع للعقاب باعتباره فعل اشتراك لأن الفعل الأصلي الذي يستمد منه فعل الاشتراك الصفة الجرمية، وهو الانتحار هو فعل مباح أصلا ( ) .
المبحث الثاني
الركن المادي في جريمة القتل
جريمة القتل بطبيعتها لاتقع بسلوك مجرد، بل تتم بحدوث الوفاة كأثر لفعل القتل وهي بذلك تعد من الجرائم ذات النتائج. ولاكتمال الركن المادي في جريمة القتل ينبغي أن يصدر عن الجاني فعل تعقبه وفاة شخص، وأن تقوم بين الفعل وهذه الوفاة علاقة السببية .
المطلب الأول
فعـــل القتــل
حدد نص القانون السلوك المكون لجريمة القتل بأنه قتل نفس عمداً (المادة 332 عقوبات اتحادي)، ولم يصف القانون تفصيلاً صورة هذا السلوك وكيفية تحقق القتل به، وقد قصد المشرع من ذلك أن يستوعب النص أية طريقة ينتهجها المتهم وتترتب عليها وفاة إنسان. ولذلك تندرج جريمة القتل في عداد جرائم القالب الحر. وعليه سوف نتطرق لماهية فعل القتل ثم لمسألة القتل بالامتناع.
الفرع الأول : فعل القتل ووسائله :
الفعل في القتل هو كل سلوك إرادي يزهق به الجاني روح إنسان آخر. ولم يضع المشرع الإماراتي وصفاً محدداً لهذا الفعل، بل كل سلوك في نظره يصلح ليكون فعلاً في الركن المادي للقتل، مادام قد أدى إلى إزهاق روح إنسان آخر، ففعل القتل إذن لايتحدد بذاته ولا بشكله وإنما يتحدد بأثره.
وعليه فإن حصول الفعل كسلوك مادي أمر لازم لقيام جريمة القتل، فلا يقوم الركن المادي من مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو التصميم عليها، لأن هذا العزم لايشكل فعلا صالحا لإحداث الوفاة .
ولما كان الفعل في الركن المادي لجريمة القتل هو أي سلوك إرادي صالح لإحداث الوفاة، فإنه قد يتمثل في حركة عضوية واحدة كضربة واحدة بعصا غليظة على الرأس أو دفعه أمام قطار أو إلقائه من شاهق. وقد يتكون الفعل من جملة حركات كتقديم جرعات متعددة من السم أو تكرار الطعن بالسكين .
وتستوي في نظر القانون الوسائل التي يستعملها الجاني في ارتكاب فعل القتل، لأن الخطر لايكمن في الوسيلة وإنما فيما يترتب على استعمالها من نتيجة، ولهذا فلا فرق بين وسيلة وأخرى لامن حيث التجريم ولامن حيث العقاب، وفي ذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا بأنه : " فإذا ما تحققت الوفاة بسبب تعمد هذا الفعل كان القتـل عمـداً أيـا كانـت الآلــه المستعملــة في إحداث الإصابة التي نجمت عنها الوفاة ..... " ( ). ومن هذا الأصل استثنى المشرع الإماراتي لاعبتارات خاصة وسيلة القتل بمادة سامة أو مفرقعة فجعل منها ظرفاً مشدداً للعقوبة (المادة 332/2 عقوبات).
وقد تكون الوسيلة قاتلة بطبيعتها كالأسلحة النارية والمواد السامة، وقد تكون غير قاتلة بطبيعتها ولكنها تؤدي إلى الوفاة نتيجة استخدامها على نحو معين كالعصي والفؤوس ( ) .
ولا يشترط أن يلامس الجاني جسم المجني عليه مباشرة كما هو الحال في الركل والخنق، بل يكفي أن يهيىء الجاني أسباب الموت ثم يسخرها لتحدث أثرها، كمن يرسل طرداً إلى المجني عليه يحوي قنبلة تنفجر عند فتحه، وكذلك وضع عقرباً أو أفعى سامة في فراش المجني عليه فتلدغه.
وإن كانت كل الوسائل سواء في نظر القانون من حيث وقوع فعل القتل فإن النقاش يثور حول صلاحية الوسائل المعنوية لإحداث القتل . وتتميز الوسائل المعنوية عن الوسائل المادية في عدم وقوعها على الجسم المادي للمجني عليه، وإنما ينصرف أثرها إلى نفسيته فتحدث فيها جرحاً يؤثر في أجهزته الداخلية تأثيراً يصل إلى إزهاق روحه. ومن أمثلتها : إلقاء نبأ مفجع كمصرع ابن وحيد على شخص مريض بالقلب بطريقة معينة بقصد قتله، فيقع فريسة نوبة قلبية تقضي عليه، أو ترويع طفل صغير بطريقة متتابعة حتى يموت .
أولاً – اتجه البعض( ) إلى القول بعدم كفاية الوسائل المعنوية لإحداث القتل، وانه يلزم استعمال وسائل مادية تصيب جسد المجني عليه، وقد استند هذا الرأي في تبرير موقفه إلى اعتبارات عملية تتمثل في استحالة إثبات علاقة السببية بين الوفاة والوسيلة المعنوية ، فضلاً على صعوبة إثبات القصد الجنائي في هذه الحالة إذ كيف يمكن إقامة الدليل على أن النبأ المفجع كان سبباً للوفاة التي حدثت .
ثانياً – إلا أن الرأي الراجح( ) استقر على التسوية بين الوسائل المعنوية والوسائل المادية في إحداث القتل، فالقانون يعاقب" من قتل نفساً عمداً "... أو من "تسبب بخطئه في موت شخص..." (المادتان 332/1 و 342/1 عقوبات اتحادي) دون أن يخصص القتل في الحالتين بوسيلة معينة.
ولايغير من ذلك القول بصعوبة إثبات علاقة السببية بين الوسيلة النفسية وبين الوفاة ، لأن الإثبات ليس معياراً لتحديد السلوك الذي يشكل عنصراً في الركن المادي للجريمة، فضلاً على أن هذه المشكلة تتعلق بذوي الخبرة وعليهم يقع واجب حلها.
علاوة على ما تقدم فإن الوسائل المعنوية لايقتصر أثرها على الحالة النفسية، بل يمتد إلى سائر أعضاء الجسم عن طريق التأثير على الجهاز العصبي الذي بدوره يؤثر على أجهزة الجسم فيحدث بها اضطرابا يؤدي إلى الوفاة . وأما عن إثبات القصد الجنائي في هذه الصورة فذلك متاح من خلال الظروف المحيطة بالواقعة وعلاقة المجني عليه بالجاني، وهي مسألة تقع على عاتق قاضي الموضوع الذي إن تعذر عليه إثبات القصد فلن يتعذر عليه إثبات الخطأ .
وعلى هذا فالوسائل المعنوية تعد من وسائل القتل شأنها شأن الوسائل المادية، فيعاقب من استخدمها في القتل، متى توافرت علاقة السببية بين الفعل والوفاة وكان القصد الجنائي ثابتاً .
الفرع الثاني : القتل بالامتناع :
السلوك الإنساني له مظهران : فعل إيجابي وامتناع أو ترك. والقتل بطبيعته جريمة إيجابية لأنه يتطلب فعل اعتداء على الحياة. ويقودنا هذا إلى التساؤل عن إمكانية وقوع القتل بطريق الامتناع، إذا ثبت قصد إحداث الوفاة بهذا الترك ؟
إبتداء يتعين الإشارة إلى أن الامتناع المسبوق بفعل إيجابي ، كمن يخطف طفلاً ويحدث به إصابات جسيمة تعجزه عن الحركة، ثم يتركه في الصحراء ليموت جوعاً، فإنه لاخلاف في الفقه حول مسئولية صاحبه عن قتل عمدي إذا توافر القصد الجنائي لديه، لأن دور الامتناع اقتصر على تمكين الفعل الإيجابي من إنتاج آثاره، فيتحمل الفعل الإيجابي عبء النتيجة ويكون سببا لها .
أما الامتناع الذي يثير المشكلة في مجال جريمة القتل فهو الامتناع الخالص ومثاله امتناع الأم عن إرضاع طفلها حتى يموت، وامتناع الممرضة عن إعطاء الدواء للمريض بقصد قتله، فإذا توفي المجني عليه، فهل يتحقق الركن المادي لجريمة القتل بهذا الامتناع؟ للإجابة على هذا السؤال نميز بين اتجاهين هما كالآتي :-
أولاً : عدم وقوع القتل بطريق الامتناع :
يذهب هذا الرأي( ) متأثراً بالفقه الفرنسي إلى عدم إمكان وقوع القتل بطريق الامتناع لأن القتل جريمة إيجابية يتطلب ركنها المادي فعلاً إيجابيا، وإن تفسير نصوص القتل لتشمل الفعل والامتناع فيه خروج على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يحظر القياس في التجريم .
كما أن الامتناع عدم ولايمكن أن يكون سبباً في حدوث نتيجة إيجابية، لأن العدم لايفضي إلا إلى عدم مثله( ).
ويرد على هذا الرأي بأن نصوص القتل لاتحدد شكل السلوك الذي تقع به الجريمة ولا طبيعته، بل تعاقب على كل سلوك تترتب عليه الوفاة. فضلاً عن ذلك فإن الامتناع كالفعل الإيجابي سلوك إرادي، فبينما تكون الإرادة دافعة للحركة في الفعل، تكون مانعة للحركة في الامتناع، وعليه فالامتناع سلوك يتجسد واقعاً في الكف عن عمل معين.